بات شبه مؤكّد انّ العالم بعد «كورونا» سيكون غير عالم ما قبله. فالصين التي كانت اول المبتلين بهذا الوباء، الذي هدّد صعودها المضطرد عالمياً، حوّلت التهديد فرصة واخترعت له علاجاً، وباتت تساعد العالم في الشفاء منه. فإذا بـ»الكورونا» بدلاً من ان تكون مقتلاً صارت حياة.
 

سواء كانت «الكورونا»، التي تهدّد العالم اليوم بخطرها القاتل، نتجت من فعل طبيعي او من حرب جرثومية دبّرها بشر بليل، للنيل من التنّين الصيني الذي أوشك ان يتزعم العالم، فإنّ النتائج السلبية لهذا الوباء بدأ يحصدها العالم اقتصادياً ومالياً، وخصوصاً الولايات المتحدة الاميركية التي تعيش حالياً اوضاعاً اقتصادية ومالية صعبة جداً، لم ينفع معها ضخ البنك الفيدرالي مبلغ 700 مليار دولار في السوق لتهدئتها، في وقت هبطت البورصة بنسبة 12% على حدّ قول خبراء اقتصاديين وماليين متابعين للأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة.

 

في هذا الصدد، يقول هؤلاء الخبراء، انّ مئات المليارات من الدولارات، التي جناها الرئيس الاميركي دونالد ترامب من العالم المأزوم وغير المأزوم لدعم الاقتصاد الاميركي وانعاشه، ذاب كالملح وجعله يكتشف انّ «البالوع» الأميركي لن يرويه مال العالم كله، ان استمرت السياسة الخارجية الاميركية على ما هي عليه، وبات الامر يحتاج الى معالجة من الداخل قبل الاعتماد على الخارج وعلى الاستثمارات المالية في الحروب والنزاعات الدولية، التي تتحوّل بنتائجها شيئاً فشيئاً لغير مصلحة الولايات المتحدة، وتُسقط مقولة التهديد المزعوم لأمنها القومي في اي بقعة من العالم، الى درجة انّ الصين التي تشكّل في العقل الاميركي التهديد المباشر وغير المباشر للزعامة الاميركية العالمية، خرجت من أزمة «الكورونا» منتصرة على طريق تكريس زعامتها العالمية، وليس كدولة عظمى دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي فقط.

 

ولذلك، يقول ديبلوماسيون في هذا السياق، انّه امام هذه الأزمة، بل التهديد الذي بدأت تشعر به، تنكّب الولايات المتحدة على ابتداع «انتصاراتٍ» هنا وهناك، خدمة لمصالح رئيسها الانتخابية، يعتقد كثيرون انّها لن تفيده كثيراً أمام حجم الأزمة الداخلية الاقتصادية والمالية الاميركية المرشحة للتفاقم اكثر فأكثر، حيث بدأت البطالة تتفشى في بلاد العم سام ونظام الرعاية الصحية يضطرب، فضلاً عن الهبوط في الاسواق المالية واسواق الاسهم والبورصات. وثمة من قال، انّ اطلاق آمر سجن الخيام عامر الفاخوري المُتهم بأعمال قتل وخطف وتعذيب للسجناء ايام الاحتلال الاسرائيلي للجنوب، تستغله الادارة الأميركية وتعتبره «انتصاراً».

فالرجل الذي تعامل مع اسرائيل، عملت واشنطن على إطلاقه في اتصالات مباشرة وغير مباشرة، الى درجة تبيّن أنّه شكّل جانباً كبيراً من البحث في اللقاءات التي جمعت مساعد وزير الخارجية الاميركي ديفيد هيل مع عدد من السياسيين اللبنانيين، وخصوصاً خلال لقائه الطويل مع رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك، وذلك خلال زيارته للبنان قبل تأليف حكومة الرئيس حسان دياب.

 

تفسيرات كثيرة وخلفيات أُعطيت لإطلاق الفاخوري، الذي تتضارب المعلومات بين أنّه موجود الآن في مقرّ السفارة الاميركية في عوكر، وبين انّه نُقل الى خارج البلاد. ويُقال انّه بعد إصدار القرار القضائي بمنع السفر عنه لم يعد في امكانه مغادرة لبنان عبر مطار بيروت أو البحر، وإنما عبر طوافة اميركية عسكرية اميركية من مهبط عوكر، سيشكّل أزمة بين لبنان والولايات المتحدة.

 

من التفسيرات والخلفيات التي أُعطيت لإطلاق الفاخوري:

اولاً- انّ الاميركيين الذين طالبوا بإطلاقه منذ اللحظة الاولى لم يكن هدفهم انتخابياً وإنما انطلاقاً من مبدأ لديهم هو «انّ من يتعاون معنا او مع اسرائيل لا نتركه». فالاميركيون كالعادة يعقدون اتفاقات وصفقات لاستعادة عملائهم، وكثيراً ما فعلوا هذا الامر في سوريا والعراق على مدى السنوات الاخيرة وحتى الأمس القريب. وهم بهذا التصرّف إنما يوجّهون رسائل الى عملائهم الآخرين مفادها: «أنكم لستم متروكين».

 

لكن في حالة الفاخوري، يُقال انّ الاميركيين، ربما يكونون مارسوا تهديدات بالويل والثبور وعظائم الامور ضد لبنان اذا لم يُطلق سراحه. فهو من ضمن منظومتهم الامنية. وربما يكون لبنان قد انصاع لهذا التهديد، لاعتقادٍ بأنّه لا يستطيع تحمّل مواجهة مع الولايات المتحدة في هذه الظروف، علماً أنّ واشنطن غالباً ما تتعامل بلغة التهديد مع الدول الصغيرة لنيل ما تريد منها، ولكنها تتعامل بلغة التفاوض مع الدول الكبرى كروسيا وغيرها.

 

ثانياً- احتمال ان يكون الجميع موافقين على صفقة مع واشنطن لإطلاق الفاخوري، من شأنها ان تخفف عن لبنان الضغوط الاميركية. والبعض يقول انّ لبنان لا تنقصه ازمات وضغوط وربما عقوبات، في الوقت الذي هو في انهيار مالي واقتصادي، وبالتالي يحتاج الى تعاون دولي معه للخروج منه. وفي هذا الصدد، يقول اصحاب هذا السيناريو، انّ الصفقة بدأت بعد زيارة هيل الاخيرة لبيروت، حيث تيسّر تأليف الحكومة ونالت الثقة النيابية في ظل معارضة خفيفة، واستُبعدت العقوبات التي كانت تلوّح واشنطن بفرضها على بعض القوى والقيادات السياسية الحليفة لـ»حزب الله».

 

ثالثاً- انّ الفاخوري أُطلق تحت تهديد اميركي تدحرج منذ زيارة هيل وعبر اقنية ديبلوماسية متعددة، وكان تهديداً مباشراً وغير مباشر للمسؤولين اللبنانيين وللمعنيين بتوقيفه ولبعض القوى السياسية. ويؤكّد هذا التهديد انّ المعنيين القضائيين كانوا قرّروا، بالتفاهم مع المسؤولين وبعض القوى السياسية، تأجيل البت بهذا الملف الى مرحلة لاحقة، لتلافي اي تبعات سياسية وشعبية لا يمكن احد تحمّلها في هذه المرحلة. ولكن الاميركيين مارسوا ضغوطاً على المعنيين لإطلاقه، وتبيّن انّ من بين غاياتهم من إطلاقه بهذه الطريقة المفاجئة والفجّة وتحت جنح الانشغال بأزمة «الكورونا»، إحراج «حزب الله» أمام جمهوره وبيئته. فالفاخوري كان يُفترض إحالته قضائياً الى النبطية، كون الشكوى القضائية المقدّمة ضده هناك، الامر الذي لم يحصل، وتقرّر إطلاقه من المحكمة العسكرية ليخرج من البلد «غصباً عن الدولة» ما سيسبب مشكلة كبيرة، علماً انّ البعض تحدث عن احتمال ان يكون إطلاقه منطوٍ على «صفقة تبادل» تشمل بعض الموقوفين اللبنانيين لدى السلطات الاميركية، لكن لم تظهر اي مؤشرات بعد الى وجود صفقة من هذا النوع.

 

اصحاب هذا السيناريو يعتقدون انّ واشنطن ارادت بإطلاق الفاخوري تحقيق انتصار معنوي على لبنان عموماً، لكن اي انتصار هذا وعلى اي لبنان، الذي يعاني انهياراً مالياً واقتصادياً، ولم يعد لديه ما يخسره بعد كل ما جرى عليه ويجري؟