لا صوت يعلو فوق خطر «الكورونا»... تلك هي ملامح المشهد اللبناني المتعاظم منذ اعلان «حالة الطوارئ» غير الرسمية، ومن ثم «حالة التعبئة» الرسمية، بعد قرار مجلس الوزراء الأخير، والذي أتى بناءً على توصية المجلس الأعلى للدفاع والمختصين في الشأن الصحي.
 

غابت «الثورة» ومطالبها في استراحة قسرية. باتت التحدّيات الاقتصادية تحتل مرتبة متدنية في الخطاب العام. الإصلاح ومكافحة الفساد تحوّلا إلى «علاج» ومكافحة للوباء. كل شيء تغيّر، ولو إلى حين، ولكن ثمة من يحافظ على ثوابت سلوكية، تجعل «مصائب قوم عند آخرين فوائد».

 

بين «الطوارئ الصحية» المبرّرة للغاية، في ظلّ حرب تخوضها البشرية جمعاء ضد الوباء «الكوروني»، وبين «الهلع» غير المبرّر على الإطلاق، والذي تساهم بعض الجهات في تزكيته خدمة لأهداف خاصة لن يتأخّر الوقت حتى تتكشف، ثمة مخاوف من أن يفقد الكل البوصلة، في ظل تحدّيات أخرى، لا تقلّ خطورة على «كورونا»، وعنوانها العريض: الاقتصاد.

 

بعيداً من الانتقادات التي تُوجّه الى الحكومة عموماً، ووزارة الصحة خصوصاً، حول الإجراءات التي كان يُمكن أن تُتبّع منذ بداية انتشار الوباء عالمياً - وبعضها أقرّ به الوزير حمد حسن بشكل غير مباشر وتحديداً الحجر الإلزامي - فإنّ التعامل الرسمي مع الوضع الحالي لا يمكن أن يوصف إلّا بالإيجابي، في ظلّ الإمكانات المتوافرة والثقافة الشعبية اللبنانية المتفلتة بمعظمها من القيود، وبذلك يمكن أن يتوافق المرء تجاهها مع مقولة «أن تأتي متأخّرة خير من الّا تأتي أبداً».

 

مع ذلك، ثمة الكثير مما يجب التنبّه إليه في خضم هذه الإجراءات الاستثنائية، والذي لا يُعرف حتى الآن مدى قدرة الحكومة على القيام بها تجاه التحدّيات الأكثر خطورة.

 

الخطة الوطنية لمكافحة «الكورونا» ستخفف بالتأكيد من انتشار الوباء، وهي وإن كانت تبدو انّها تراعي المعايير العلمية التي تتبّعها معظم دول العالم، بما في ذلك تلك التي تمتلك نظاماً صحياً متقدّماً، فإنّها في الوقت نفسه تبدو انّها لا تراعي، جوانب اخرى قد تكون أكثر خطورة من الفيروس نفسه:

 

ماذا عن القطاعات الاقتصادية التي لا تزال قادرة على التنفس اصطناعياً في اقتصاد محلي ما زال في غرفة العناية الفائقة، ويُخشى من اقترابه من حالة الموت الاكلينيكي؟

 

ماذا عن المدارس والشركات بموظفيها ومياوميها المُجبرين اليوم على الالتزام بقرارات الإغلاق الطارئة، وغالبيتهم ستكون من دون مرتبات أو أية ضمانات؟

 

ما سبق، يتطلّب بالتأكيد «حالة طوارئ اقتصادية» بالتوازي مع «حالة الطوارئ الصحية»، ولا سيما مع دخول لبنان رسمياً مرحلة التعثر، بكل تبعاتها على الاقتصاد الوطني عموماً، وعلى العلاقات المالية الداخلية والخارجية، خصوصاً أنّ الحرب الاقتصادية على لبنان تسير اليوم بالتوازي مع المعركة ضد «الكورونا»، علماً بأنّ جبهتي المواجهة اليوم متكاملتان، أخذاً في الحسبان الضغوط المستجدة التي تولّدها كل منهما على الأخرى.

 

لعلّ أخطر هذه الضغوط يتمثل في سعي البعض للاستثمار في الوباء نفسه! هذه هي حال بعض الجهات التي تسعى أن توظف «الكورونا» لتصفية حسابات سياسية، بدلاً من الاصطفاف في مواجهة خطر لا يستثني أحداً. صحيح أنّ ذلك التوظيف السياسي لم يخرج حتى الآن عن إطار البروباغندا، التي تبدو أقرب إلى تدوينة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتلاشى صداها وسط ضجيج الوباء العالمي، إلّا أنّ ما يثير القلق هو أنّ بعض القرارات الخطيرة ربما تشق طريقها تسللاً وسط الضجيج نفسه، ابتداء من إجراءات «غير شعبية» قد تُتخذ في مواجهة الأزمة الاقتصادية، وصولاً إلى قرارات قضائية خطيرة، كقرار إسقاط العقوبة على العميل عامر الفاخوري... الخ.

 

أما الأكثر خطورة، قياساً إلى ما سبق، فهو الاستثمار الاقتصادي في الوباء، على نحو يناقض أدنى المعايير الاخلاقية، التي ترقى إلى مستوى الجريمة الانسانية، وآخر فصولها التحرّكات المريبة لجمعية المصارف اللبنانية، التي تحاول أن تضع اللبنانيين أمام أمر الواقع نفسه الذي وجدوا أنفسهم عالقين فيه منذ 17 تشرين الأول الماضي، حتى أنّ البعض تندّر، في إطار الكوميديا السوداء السائدة في لبنان، على خطوة الإقفال الأحادية الجانب بالقول «لعلّ المصارف كانت تنتظر «كورونا» بفارغ الصبر حتى تغلق أبوابها».

 

في الواقع، لم تكن المصارف في حاجة إلى «كورونا» لتُظهر للبنانيين أنّها دولة داخل الدولة. ملامح هذه الظاهرة تبدّت بكل وقاحة يوم استنفرت الطبقة السياسية الفاسدة، قبل أسبوعين، لمنح المصارف حصانة لا تستحقها أمام القضاء اللبناني، الذي وصل إلى حدّ اتهامه بتنفيذ «محاولة انقلابية» على النظام اللبناني و»دفن لبنان الكبير»، إلى آخر تلك العبارات الكبيرة التي أعقبت قرار المدّعي العام المالي بتجميد أصول المصارف، في إطار الملاحقات القضائية الجارية لتقصّي مصير مليارات الدولارات التي هُرّبت إلى الخارج.

 

لكنّ ما جرى بالأمس، من إصرار على اغلاق المصارف، يمثل ذروة تحدّي جمعيتها للدولة اللبنانية، والإمعان في سرقة الناس، من خلال إجراءات تسيير الأعمال، التي تصبّ كلها في خدمة هدف واحد: إقتصار السحب بالليرة، طالما أنّه مقتصر على أجهزة الصرف الآلي، وحرمان اللبنانيين بالتالي حتى من الخمسين دولاراً المرصودة لهم أسبوعياً في اقصى درجات الإذلال، وصولاً إلى تعطيل مفعول «الدولارات الجديدة» أو ما يُسمّى بـ»فريش ماني»، في ما يمثل انقلاباً واضحاً على التفاهمات التي جرت خلال الأيام الماضية، والتي كان من شأنها أن تحدّ قليلاً من ظاهرة تحوّل الفروع المصرفية إلى مكان يتسوّل فيه اللبنانيون حقوقهم!

 

ثمة قاعدة عامة عرفتها البشرية منذ قِدم التاريخ: في زمن الحروب تختفي الجرائم. لكن لكل قاعدة استثناؤها اللبناني. تُمعن المصارف في جريمتها، وفق التوصيف الدقيق الذي ورد على لسان مارلون براندو في فيلم «العرّاب»: «ثمة جريمة بشعة خلف كل ثروة عظيمة»!