إنّ الإنسان بحاجة إلى إنقاذ، وإعادة اكتشاف هذا الإنسان داخل الإنسان، وأنّ مُهمّته كإنسان تنحصر في الإنعتاق نهائياً من النزعة الانسانية، على اعتبار أنّ الأنظمة الغربية والشرقية تُهرّب بضاعتها الفاسدة تحت راية النزعة الانسانية.
 

أنجز الإنسان خلال حياته المُتقلّبة ثورتين حاسمتين، وهو يحاول السيطرة على الطبيعة أولاً، وعلى بني البشر ثانياً، إحداهما حصلت في الأزمنة السحيقة ودُعيت بالثورة الحجرية الجديدة(النيولوتيّة)، والثانية الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وتستمر فصولها حتى اليوم، بين هاتين الثورتين لم تكن فتوحات اليونان والرومان والعرب المسلمين، سوى ثورات عارضة ومحدودة الأفعال، ولرُبّ عامٍ واحدٍ ٍ من إنجازات الثورة الصناعية وفعلها في العالم الحديث، كعقودٍ كثيرة ممّا تعُدّه أحداث الأمبراطورية الرومانية والخلافة الاسلامية، على صعيد التغيرات الفعلية في حياة الشعوب وأنماط معيشتها.


أولاً: الثورة النيولوتية...

فيما يتعلق بالثورة النيولوتية ونتائجها المأساوية على أفراد القبائل البدائية، الذين استبدلوا الفأس الحجرية بالفأس الحديدية، كتب الأنّاس المعروف ألفرد مترو دراسة في خمسينيات القرن العشرين، أوضح فيها النتائج الكارثية لهذا الإستبدال، من نسف نمط حياةٍ كان صامداً في وجه تقلّبات الزمان، تغيرت وتيرة الحياة وطبيعة القِيم والتبادلات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وكان من أولى ضحاياها اجتثاث الغابات واستصلاح الأراضي للزراعة، وبات همّ الهندي الأحمر الحصول على كل قطعة من الحديد،  وتحوّل بعضهم(هنود موجو Mogo) إلى قنّاصين يصطادون العبيد لحساب الأسبانيّين بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، ليكسبوا بذلك ما يشترون به الفؤوس والمُدى، وبعض قبائل تشاكو(Chaco) يتخلّون عن حُريّتهم ولا يتخلون عمّا بحوزتهم من أدوات حديدية، وفي حال حصول إحدى القبائل على الفؤوس الفولاذية، كانت تتعرّض لهجمات جيرانها الذين يفتقدون لمثل هذه الأدوات، ولئلا نستطرد في ذكر الشواهد العديدة التي سردها مترو في دراسته، يمكن القول أنّ هذه الثورة النيولوتية "الحضارية" أدّت إلى انهيارٍ فعلي للنظام القبلي البدائي، تفكّكت على إثرها هذه القبائل وتاهت في الفيافي، وما لبثت أن انقرضت، شأنها ربما كما يقول الباحث الراحل حسن قبيسي، شأن جديس وطسم وأهل الرّس...

اقرا ايضا : من نِعم الله ونِعم الكورونا، السيد يرفع الحظر عن صندوق النقد الدولي

 

ثانياً: الثورة الصناعية...


مهّدت الثورة الصناعية لمزيدٍ من سيطرة الإنسان (الرأسمالي)  على الطبيعة وسائر بني البشر الذين لا يملكون سوى قُوّة عملهم (حسب ماركس)، وصدرت ملاحم عديدة تتغنّى بتفوّق النظام الرأسمالي  في كافة المجالات: في الصناعة والتجارة والتّقنيات وغزو الفضاء، وتطوير الأسلحة وتقدّم العلوم، حتى وقف الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أواسط القرن الماضي ليقول، بأنّ الإنسان بحاجة إلى إنقاذ، وإعادة اكتشاف هذا الإنسان داخل الإنسان، وأنّ مُهمّته "كإنسان" تنحصر في الإنعتاق نهائياً من النزعة الانسانية، على اعتبار أنّ الأنظمة الغربية والشرقية تُهرّب بضاعتها الفاسدة تحت راية النزعة الانسانية، دون أن ننسى ما أنتجته هذه النزعة من أسوأ ما شهدته أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية( النازية والستالينية)، وكان الفيلسوف الألماني نيتشه (قبل فوكو) قد حسم "غياب الإنسان" كنتيجة طبيعية لموت الإله( موت مفهوم مُعيّن للإله)، ولم يبقَ عند نيتشه سوى القدَر، أي ميتولوجيا تُبشّر بالعودة الأبدية، وحقّ لفوكو عندئذٍ أن يسخر من عبادتنا للتّقدّم والتاريخ، ومن تلهُّفاتنا للكلام عن فلسفات الأخلاق، أو عن السياسات، بدلاً من أن ننتظر بهدوء أزمة لا يمكن للعقل تهيّؤها، ولا للتّاريخ تهيؤها، كما لا يمكننا أن نُفصح عنها، نظراً لأنّنا نتخبّط في تشتُّتنا اللغوي، وينبغي مع ذلك أن نتوقع عودتها، ولربما هي عادت اليوم بوجه فيروس Covid-19، بعد أن أصبح "الإنسان"، صانع مجد الثورة الصناعية محبوساً في دائرة معارفه، في الشّرنقة التي حاكها حول نفسه، والناس مطلع القرن الحادي والعشرين يشعرون بأنّ الثقافة ونتائجها تقهرهم، والعلم الذي نعتزّ به موجودٌ في الكُتب المُكدّسة، لا فينا نحن الذين لا نفهمه، وتُعلّمنا اللّسانيات والإثنوغرافيا أنّنا خاضعون لقوانين لا نفهمها، كما يُعلّمنا التحليل النفسي بأنّنا ما لسنا نعرفه، وبأنّنا محبوسون بين لغة العلماء ولغة الراديو الدنيا، لم نعد نعرف ما هو الكلام في الحقيقة، الحقيقة التي عرّاها هذا المخلوق اللامرئي العجيب والمُرعب: Covid-19.