لم تمنح القوى السياسية الأساسية حكومة الرئيس حسان دياب فرصة عن عبث، بل بفعل شعورها بخطورة المرحلة المالية والاقتصادية ودقتّها، ولأنّ فشلها لن يكون كفشل أي حكومة في ظروف عادية، وقد يُدخل لبنان في مرحلة شديدة الخطورة.
 

يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق مصيري، فإما يَنجو وإما يَسقط، والنجاة أو الغرق ليسا قدراً، بل هما بيد أصحاب القرار والحكومة تحديداً، فإذا فشلت يَسقط لبنان في الفوضى، وإذا نجحت يعبر إلى شاطئ الأمان، ولكن هناك شروطاً للنجاح يجب تطبيقها والالتزام بها، وأبرزها ثلاثة:

 

الشرط الأول، التقدُّم بخطة إصلاحية حقيقية شاملة، على أساس مِهل زمنية تطبيقية محدّدة، تعيد الثقة للمواطن اللبناني بوجود تغيير فعلي وتصميم جدّي، وتدفع المجتمع الدولي إلى فتح أبواب التعاون مع لبنان، باعتبار انّ هذا المجتمع يشترط الإصلاح كمدخل للتعاون.

 

والخطة تعني مقاربة كل شيء لم تتمّ مقاربته حتى الآن، من وقف التهريب المنظّم عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، إلى ضبط الهدر والفساد في المطار والمرفأ والجمارك، وصولاً إلى إعادة هيكلة القطاع العام وإشراك القطاع الخاص مع القطاع العام من أجل ترشيد الإدارة وإنشاء صندوق سيادي، يُجري مناقصة شفافة لاختيار شركة دولية تتولّى إدارة المرافئ والقطاعات المنتجة في لبنان من أجل مضاعفة إنتاجها ووقف الهدر في إدارتها.

 

والإشكالية الفعلية ليست حول التعاون مع صندوق النقد أو عدم التعاون، وطرح المسألة من هذه الزاوية خطأ كبير، لأنّ أحداً لا يريد ان تتخلّى الدولة اللبنانية عن سيادتها وقرارها، ولكن هذا شيء، والتذرّع بذلك تحت عنوان رفض المساس بالفقراء، فيما الحقيقة رفض المساس بالتركيبة الزبائنية والمصلحية شيء مختلف تماماً، فضلاً عن انّ التعاون ليس خياراً بل خطوة مُلزمة من أجل إدخال العملة الصعبة إلى لبنان، ومع التذكير بأنّ الأكثرية الحاكمة هي من أوصلت الوضع إلى ما وصل إليه.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الحكومة قادرة على تطبيق رزمة إصلاحات جريئة؟ وهل الأكثرية المتحكمة بمفاصل البلد ستسمح لها بذلك؟

 

الشرط الثاني، الإلتزام في كل هذه المرحلة بالحياد التام عن أزمات المنطقة ومشاكلها من أجل تدفُّق المساعدات الخارجية وتحديداً الخليجية، بخاصة انّه يجب الإقرار بأنّ السياسة السابقة بكل أشكالها أوصلت لبنان إلى الانهيار، والمسؤولية لا تقع حصراً على الإدارة السلطوية للجانب المالي، بل تقع بشكل أساسي على الإدارة السياسية التي جعلت من لبنان رأس حربة في صراع المحاور، ما أدّى إلى فرض عقوبات دولية غير معلنة عليه، والدول ليست جمعيات خيرية، فإذا تحوّل لبنان إلى مركز مضرّ بمصالحها لن تُقدم على مساعدته.

 

وفي موازاة الالتزام بالنأي بالنفس حيال أزمات الخارج، يجب الالتزام أيضاً بالنأي بالنفس حيال الملفات الخلافية في الداخل، وبالتالي حصر كل التركيز بالجانب المالي.

 

الشرط الثالث، الفورة الاقتصادية التي شهدها لبنان عشية الحرب اللبنانية لم تكن فقط نتيجة عوامل خارجية مساعدة، بل كانت بفعل النظام الاقتصادي الليبرالي الحرّ القائم على المبادرة الفردية، التي جعلت القطاع الخاص بكل مجالاته حالة فريدة في المنطقة، ولم يكن لبنان نقطة جذب بسبب القطاع العام في الدولة، بل كان نقطة الجذب بفضل حيوية مجتمعه.

 

وللتذكير فقط، انّ الدولة سقطت أمام أوّل امتحان منذ خمسة عقود وما زالت لغاية اللحظة في حال سقوط مريع، فيما الذي أبقى لبنان واقفاً على رجل واحدة هو نظامه الاقتصادي الحرّ بكل قطاعاته وفي طليعتها المصارف، وبالتالي أي محاولة لتأميم المصارف أو الحدّ من دورها وتوسيع دور الدولة سيؤدي إلى الإطاحة برجله العرجاء المتبقية. فدور الدولة ينحصر بوضع التشريعات والقوانين والضوابط والسهر على التقيُّد بها. ولكن، بدلاً من السهر على حسن تطبيق القوانين تحوّل السهر الى كيفية تجاوز القوانين لتحقيق مكاسب غير مشروعة. ولذلك المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على السلطة الحاكمة لا على المصارف.

 

وللتذكير أيضاً، انّ المصارف ليست جمعيات خيرية لا تبغي الربح، بل الهدف من إنشائها هو الربح ولكن طبعاً ضمن الأنظمة المرعية التي على السلطة السهر على تطبيقها وليس خرقها بغية الدخول في شراكات مع بعض المصارف لتحقيق المكاسب غير المشروعة على الضفتين وفي لحظة الحقيقة التبرؤ منها.

 

فالمطلوب حيال كل ذلك ان تُطلق يد المصارف تحت سقف القانون من أجل ان تسهم في عملية الإنقاذ. ويُخطئ من يعتبر انّ الإنقاذ ممكن من دون النظام الاقتصادي الحرّ عموماً والمصرفي خصوصاً، الذي شكّل ولا يزال حجر الزاوية في الاقتصاد اللبناني.

 

وعليه، تتمنّى القوى السياسية الأساسية ان تلتزم الحكومة بالشروط الثلاثة أعلاه من أجل إنقاذ لبنان وتجنيب اللبنانيين المزيد من المآسي والتعتير. ولكن ماذا لو لم تلتزم الحكومة بالتوجّه الإصلاحي المطلوب، وهذا الاحتمال لا يجب استبعاده، بسبب السقوف المنخفضة التي تعمل تحتها الحكومة المحكومة لغاية اللحظة بسقف «حزب الله» الأيديولوجي، وبسقف الأكثرية الحاكمة المصلحي وفي طليعتها الحزب طبعاً؟

 

ففشل الحكومة يعني انّها لم تتمكن من فرملة الانهيار الذي تواصل وتطوّر وأدّى إلى مزيد من تعبئة الناس وغضبها، وهي المعبأة أصلاً بفعل سوء أوضاعها، وجاء فيروس «كورونا» ليضاعف كبتها وإحباطها وانفعالاتها وثورتها، ما يعني عملياً إسقاط الحكومة في الشارع على وقع صراخ الناس ومشهد سيكون، ويا للأسف، دموياً هذه المرة، الأمر الذي سيضع الجميع أمام ثلاثة احتمالات:

 

الاحتمال الأوّل، عودة الرئيس سعد الحريري بشروطه وبصلاحيات إستثنائية، ولكن هذا الاحتمال حظوظه ضئيلة لسببين: لأنّ الناس قد لا تكون متحمّسة لهذا الخيار الذي لم تعد تعتبره ضمانة انطلاقاً من التجارب السابقة. والسبب الثاني، لأنّ الحريري نفسه قد لا يكون بهذا الوارد، باعتبار انّ الانهيار أكبر من طاقته وقدراته، فضلاً عن عدم ثقته بالأكثرية الحاكمة التي تريد استخدامه للخروج من الأزمة وشراء الوقت من دون الولوج إلى الإصلاح الحقيقي، وبالتالي تأخير الانهيار الشامل لا أكثر ولا أقل.

 

الاحتمال الثاني، الذهاب إلى حكومة انتقالية مدنية أم عسكرية، تشكّل وحدها المخرج لتهدئة روع الناس وسحبها من الشوارع، وتكون مهمتها مزدوجة: تسليم إدارة الوضع المالي بشكل كلّي للصندوق الدولي، والتحضير لإعادة إنتاج كل السلطة من دون استثناء.

 

الاحتمال الثالث، الدخول في الفوضى والمربّعات الأمنية والترسيمات الجغرافية الطائفية والمذهبية، وبخاصة انّ للفوضى ديناميتها التي يصعب ضبط اتجاهاتها، ويصبح الخروج منها على غرار سوريا، يتوقف على ظروف الحرب والمفاوضات في المنطقة، وجزءاً لا يتجزأ من مواقع النفوذ الدولية وترسيماتها. فيفقد اللبنانيون المبادرة وقدرة التحكّم بمصيرهم تماماً على غرار وضعهم في الحرب ووضع الشعب السوري اليوم.

 

فهل من يفكِّر بهذه الاحتمالات السيئة الذكر؟ وهل من يسأل، ماذا لو فشلت الحكومة؟ وأليس من الأفضل نجاة المركب اللبناني من خلال إصلاحات لا مهرب منها، تُنقذ لبنان واللبنانيين، بدلاً من غرقه وإعادة لبنان إلى الفوضى؟ 

 

الناس لن ترحمكم هذه المرة.