شاء "حزب الله" أم أبى، رضي أم اعترض، غضّ الطرف أم وافق، سهّل أم قمع، فإن لبنان سيلجأ، عاجلا أم آجلا، إلى صندوق النقد الدولي، سواء كان منظمة منبثقة عن الأمم المتحدة تلعب دورا مركزيا في النظام النقدي الدولي، كما هي عليه الحال، أم كان من "أدوات الاستكبار" على ما نطق به نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم.
 
هذا الكلام لا يندرج في إطار تحدي حزب يملك ترسانة أسلحة ويسيطر على السلطة، بل هو نتاج طبيعي للأمور، لأن الخيارات أمام لبنان، بعد كل ما حدث له وفيه، ليست مفتوحة، بل تقتصر على حدّين لا ثالث لهما: الجوع أو الفقر.
 
والحديث عن الجوع ليس تهويلا، فماذا يعني قول رئيس الحكومة اللبنانية حسّان دياب، في خطاب "تعليق" دفع الدولة للمتوجبات "أن هناك أناسا على الطرقات وليس لديهم المال لشراء رغيف خبز"؟
 
إن استعانة لبنان بصندوق النقد الدولي، ليست ترفا
وإذا كان من يعادون النظام النقدي الدولي الحالي يعتبرون، بالاستناد إلى نظريات طالما أثارت الجدل، أن وصفات "الصندوق" تجلب الفقر للشعوب، فإن هؤلاء لا يتطرقون مطلقا إلى أن هذا "الصندوق"، وفي المقابل، يحول دون الوقوع في جهنّم الجوع.
 
ولبنان بفعل حاجياته الغذائية والتشغيلية والاستهلاكية، بالمقارنة مع عجزه الإنتاجي المعروف، لا يستطيع توفير الحد الأدنى من مستلزماته، من دون تدفق مستدام للعملات الصعبة.
 
حتى أشهر خلت، كان لبنان يوفر هذا التدفق معتمدا على ثلاثة مصادر رئيسة بدأت تتآكل، رويدا رويدا، منذ العام 2011: تحويلات المغتربين اللبنانيين، جاذبية الإيداع في النظام المصرفي، تصدير وسياحة.
 
وهذا يفيد بأن لبنان لم يعد لديه ما يعتمد عليه، في ظل توقف تدفق العملات الأجنبية، سوى احتياط المصرف المركزي الذي في حال تسييله للاستيراد ـ ولو كان مقنّنا ـ فإنه بالكاد يكفي سنتين.
 
ولو جرى اعتماد خيار التصرف باحتياط مصرف لبنان في عمليات استيراد الضرورة، فهذا يعني أن العملة الوطنية ستقع في حفرة بلا قعر، وتاليا سيجد اللبنانيون أنفسهم فريسة الجوع والحرمان، وينتظرون "إعاشات" وكالات الغوث العالمية.
 
ولكن لبنان، على الرغم من كل الويلات التي ألمّت به، ليس مضطرا أبدا للوصول إلى هنا، فهو مثله مثل شخص يعاني الجوع والحرمان لأنه لا يحوز على ما يكفيه من السيولة، في حين أنه يستطيع إنقاذ نفسه بتغيير إدارته لممتلكاته الكثيرة والمنتجة.
 
وهنا، تحديدا يأتي الدور الذي لا بد منه لصندوق النقد الدولي.
 
إن النقاش المعلن في لبنان، حتى كتابة هذا المقال، حول هذه المؤسسة النقدية العالمية، يخرج عن الموضوع.
 
فالموضوع ليس، كما يحاول البعض الإيحاء به، أن الصندوق "مستقتل"، حتى يمنح الدولة اللبنانية قروضا ميسّرة مقابل شروط محددة، بل إن الدولة اللبنانية هي التي تحتاج، بأسرع ما يمكن، للحصول على هذه الأموال التي، كما هو معروف، غير ممكن توافرها، من دون الالتزام بمعايير "الحوكمة" السليمة.
 
وفي حال لم تكن الدولة مستعدة لهذا الالتزام، فإن أحدا في العالم، باستثناء شعبها الذي تتماثل الكارثة الوشيكة أمامه، لن يضربها على يدها لتفعل.
 
وعلى الدولة اللبنانية في هذه الحالة، أن تفتش عن بدائل تمويلية، فإذا كان "حزب الله"، مثلا يريد مساعدة بلا شروط تزعجه، فما عليه، والحالة هذه، سوى أن يطلب من راعيته العقائدية والعسكرية والمالية، تمويل لبنان، لتتمكن الدولة من الاستمرار في الانصياع لسياسات "المتراس الإقليمي" المفروضة عليها.
 
طبعا، إن هذا الطلب الموجه إلى "حزب الله" هو من باب الدعابة في سياق مناقشة الاحتمالات المستحيلة، على اعتبار أن إيران نفسها التي ترهق شعبها بفواتير الحروب والصراعات وأوهام السيطرة والعظمة، ومن أجل أن تتمكن من مكافحة فيروس كورونا ( كوفيد ـ 19) استجدت صندوق النقد الدولي أن يمنحها خمسة مليارات دولار.
 
ولكن مهلا، ما هي شروط هذا الصندوق على لبنان والتي يستفظعها البعض بقيادة "حزب الله"؟
 
الإصلاح في وقته "قنطار"، مهما كلّف الحاكم شعبيا
باختصار، هي تلك التي سبق للبنان والتزم بتنفيذها في مؤتمر "سيدر" الباريسي في أبريل 2017، لا أكثر ولا أقل، وهذا يعني أنه، إذا رفض لبنان مساعدة الصندوق التقنية، فيكون، في الوقت نفسه، قد تراجع، وبخطوة واحدة، عن تعهداته في "سيدر".
 
والأهم من ذلك، ما هو المدرج في الموصوفة بعبارة شروط، ولم تطلبه المنابر والساحات، وبخاصة ثورة 17أكتوبر المصابة حاليا بـ"فيروس كورونا": القضاء المستقل؟ قوانين الشفافية ومكافحة الفساد؟ منع التهرب الضريبي؟ ضبط المعابر غير الشرعية برا ومرفأ ومطارا؟ جعل المصارف في خدمة الاقتصاد؟ تخفيض الفوائد؟ إصلاح الكهرباء؟ ترشيق الإدارة؟
 
يكفي في هذا السياق، إجراء مقارنة بين تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بلبنان الصادر في العام 2019 من جهة وبين مرتجى اللبنانيين من جهة أخرى، للتأكد من أن "التخويف من الشروط"، هو عمليا خوف خفي لدى المخوّفين أنفسهم، من الإصلاح الشامل الذي ينقل لبنان من قائمة الدول الساقطة ليضعها في قائمة الدول الواعدة.
 
إن هذا التدقيق بين المطلوب من لبنان وبين ادعاءات "الخائفين" من شأنه أن يعطي صدقية للقائلين إن لبنان أمام احتمالين، فإما أن تنهض الدولة على حساب الدويلة، أو تستمر الدويلة ولكن على ركام الدولة.
 
وفي حقيقة الأمر، فإن لبنان، وصل إلى حيث لم يكن أبدا مقدرا له أبدا أن يصل، إذ إن الجميع كان قادرا، بلمحة بصر، ليس على تشخيص المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية، فحسب بل على استعراض شامل لخطة الإنقاذ والنهوض، وذلك بدءا بمعطيات مؤتمرات باريس ـ 1 و2 و3، مرورا بـ"سيدر"، وصولا إلى خلاصات "المجموعة الدولية لدعم لبنان".
 
إذن، أقله منذ العام 2001 يعرف لبنان مشاكله البنيوية كما الخطوات الواجب عليه اتخاذها للإنقاذ، ولكنه، ولأسباب سياسية، كان ممنوعا عليه أن يفعل، على اعتبار أن لبنان مع بشار الأسد بداية ومع علي خامنئي لاحقا، ممنوع عليه أن يكون دولة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان سيادية وسياسية ومالية واقتصادية وحياتية واجتماعية.
 
وفي هذ السياق، لا بد من الإشارة إلى أن هناك دولا كبرى تتعاطى بجدية مطلقة مع توصيات صندوق النقد الدولي، وهي في مرحلة القوة، حتى لا تجد نفسها تلجأ إليه، لاحقا، أي حين تصل إلى مرحلة الضعف والهوان.
 
ففرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، أنجزت إصلاحين كبيرين ولكن ضروريين لمستقبلها، وذلك على مستوى قانون العمل ونظام التقاعد.
 
وقد لجأت الحكومة الفرنسية، لتمرير هذين الإصلاحيين الموصى بهما، إلى الأدوات التي تمنحها إياه "قوة الفرض" الدستورية، مدركة الأثمان السياسية والشعبية التي يمكن أن تتكبّده، في كل الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة.
 
لبنان أمام احتمالين، إما أن تنهض الدولة على حساب الدويلة، أو تستمر الدويلة ولكن على ركام الدولة
والإصلاح في وقته "قنطار"، مهما كلّف الحاكم شعبيا. في لبنان يعتمد نقيض هذه الحكمة، فعلى سبيل المثال، فإن الإقرار المرتجل لسلسلة الرتب والرواتب الذي سرّع في ضرب ملاءة الدولة، كان مجرد رشوة انتخابية، كما أن إدارة ملف الكهرباء، وهي بالمحصلة إدارة سياسية تولاها مستقوون بـ"حزب الله" نفسه، يمكن وصفها بالفضيحة الكونية.
 
إن استعانة لبنان بصندوق النقد الدولي، إذن، ليست ترفا، والمسؤولون عما آلت إليه الأمور كثر يتقدمهم "حزب الله" نفسه الذي، وبسبب "جبن" البعض سوف يصدّق نفسه أنه بريء من الكارثة الوطنية كما أنه، وبسبب "تواطؤ" البعض الآخر سوف يقتنع، وهو الملحق بفيلق القدس الإيراني، أنه خبير دولي محلّف في شؤون المال والاقتصاد و...صناعة الأمم.
 
عاجلا أم آجلا، سوف يطلب لبنان الاستعانة بصندوق النقد الدولي، تماما كما عاد، في ظل أزمة "كوفيد ـ 19" واضطر، بعد تلكؤ سياسي، إلى قطع الرحلات الجوية مع إيران.
 
ولهذا من الأسلم أن تكون هذه الاستعانة عاجلة وليس آجلة. سيناريو انتشار الوباء في لبنان، بفعل التلكؤ السياسي المرتبط بحساسية العلاقة مع إيران، يمكنه أن يعطي فكرة واضحة عن كلفة الخوف والتردد.