ما بين قصر العدل وحاكمية مصرف لبنان، جالَ ملف التقنين بالدولار وأسعاره، العالِق بين المصارف والصرّافين من جهة واصحاب الودائع، برعاية قضائية غير مسبوقة، وهذا ما دفع الى أكثر من سؤال حول إمكان تجاوز القضاء لحد صلاحياته وقيامه بأدوار السلطات المعنية. وكل ذلك يجري في وقت لا يمكن لأحد الحكم على ما آلت اليه التفاهمات المعلنة بانتظار ترجمتها.
 
حتى الأمس القريب كان اللبنانيون يتساءلون عن دور القضاء وما يمكن أن تقوم به سلطة قضائية مستقلة، بعد فشل المسؤولين في اكثر من موقع في إقفال بعض الملفات الشائكة، وبعدما أرخَت الأزمة الاقتصادية، وتحديداً النقدية منها والمالية، بظلالها على حياة اللبنانيين واصطَفّ المواطنون أرتالاً وصفوفاً أمام صناديق المصارف يستعطفون منها شيئاً من مدّخراتهم، وبعد أزمتي الدواء والرغيف، وصولاً الى المستلزمات الطبية وحاجات المستشفيات إليها والقطاع الصناعي عموماً.
 
ولمّا توالت بعض الشكاوى والإخبارات الى القضاء عن الادّعاء بوجود مخالفات مالية للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، باتَ بعض القضاة على تَماس مع العديد منها، وخصوصاً تلك المتّصلة بقانون النقد والتسليف وقانون التجارة العامة، كما تلك الأنظمة التي ترعى عمل الصرّافين في بلد يدّعي الإقتصاد الحرّ، فانفجرت سلسلة من الأزمات دفعة واحدة. وزاد الطين بلّة أنها تزامنت مع ولادة حكومة جديدة ومواعيد استحقاقات مالية كبرى منها كيفية التعاطي مع دفع سندات «اليوروبوندز» المستحقة، في وقت عجزَ فيه مصرف لبنان ومعه السلطات المعنية بالحد من الفلتان الذي شَهده القطاع المصرفي، وباتت المصارف في مواجهة خطيرة وغير مسبوقة مع أصحاب الودائع على أنواعها، فشهدنا على اعتداءات لم يشهد لبنان مثيلاً لها في زمن قدّمت الإنتفاضة الشعبية السلمية في أولى تحركاتها نموذجاً يُحتذى به في العالم.
 
ومهما تعدّدت الروايات التي تثبت ما ارتُكب من مخالفات في القطاع المصرفي من عدمه، لا تقف عند نقل الأرصدة المالية الكبرى بالمليارات من الدولارات الى الخارج. فهي عمليات مشروعة ولها سند قانوني رغم احتمال وصفه بـ»اللاأخلاقي» لتزامنه مع ما تمرّ به البلاد من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وحكومية زادت من حجم الاحتقان.
 
وأمام هذه الوقائع، وبينما كان البلد يبحث في قرار وقف دفع قيمة سندات «اليوروبوندز» وسط مجموعة من السيناريوهات السلبية، جاء قرار المدعي العام المالي علي ابراهيم بفرض تجميد حق التصرّف بأملاك وموجودات مجموعة من المصارف قبل يومين على اتخاذ القرار بوقف دفع مستحقات هذه السندات ليضع القضاء في عين العاصفة. وزاد تجميد القرار ووقف مفاعيله لأسباب وجيهة، ليضع جميع المُتعاطين بالأزمة المالية والنقدية امام مسؤوليات خطيرة وجسيمة.
 
ورغم كل الجدل القائم لم يقف القضاء أمام ردات الفعل التي كان يمكن أن تجمّده، فواصَل مبادراته للجم ما يجري في القطاعين المصرفي والصيرفي في آن. وهو ما ترجَمه مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات في اجتماعه مع الوكلاء القانونيين للمصارف قبل لقائه وأصحاب ورؤساء مجالس إداراتها في حضور القاضي ابراهيم وعدد من المحامين العامّين لدى محكمة التمييز، وانتهى معهم الى «سباعية» من التفاهمات التي يمكن أن تشكّل نافذة صغيرة لمجموعة من المشكلات التي يعانيها أكثرية اللبنانيين يومياً. وكل ذلك جرى في وقت كان ابراهيم قد شارك في لقاء شهده البنك المركزي بين حاكمه رياض سلامة ونقابة الصرافين، لتذكيرهم بمضمون المذكرة التي أصدرها سلامة لوضع حدّ للفلتان في القطاع الصيرفي وتحجيم انعكاساته.
 
وأمام هذا الدور المُتعاظم للقضاء، كان طبيعياً أن يُثار من حوله كثير من التساؤلات. فلم يسبق أن قادت السلطة القضائية مثل هذه المبادرات، رغم ما آلت اليه من نتائج عجزت عنها السلطات المالية والادارية والنقدية. ولذلك توقّف كثر عند تجاوزها حد السلطة من عدمه. فالجدل طبيعي طالما انّ هناك قوانين تسمح بذلك وتعطيها هامشاً من «الاستنسابية» لاتخاذ بعض الخطوات في «الظروف الإستثنائية». فالبلد لا يعيش حياة طبيعية وانشغال المسؤولين بملفات عدة ومتشعبة يسمح للسلطة القضائية بأن تسهّل الطريق حيث يمكن للتخفيف من مسلسل الأزمات الخانقة.
 
ومهما قيل في الإجراءات القضائية، ولا سيما اتهامها بتجاوز حدّ السلطة، فإنّ المهم هو النتائج. فاحتمال أن تنجح السلطة القضائية في تطبيق التفاهم مع المصارف وفق الآلية التي رسمت للتعاطي مع المودعين وأصحاب الحقوق وارد. ولكنّ الاجراءات ناقصة لأنها لم تحل مشكلة الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار بل تركتهم تحت رحمة خسارة اربعين بالمئة منها شهرياً، كما لم تحل كارثة حجز اموال المودعين بالعملة الصعبة، اضافة الى عدم قدرة السلطات النقدية من ترجمة التفاهم مع الصيارفة. وهو أمر سيظهر في الأيام المقبلة.
 
ولا بدّ من الإشارة الى أنّ القضاء يجب أن يبقى ضمانة للجميع وخصوصاً عند السعي الى قضاء مستقل. وعليه، يجب أن يُترك له هامش من الحركة الحميدة والشجاعة لعلّه يملأ الشغور الذي عجزت عنه السلطات الإدارية والنقدية والحكومية. فإذا نجح ما الذي يمنع من تولّيه ملف استعادة الأموال المنهوبة، فتجهيز غرف في قصر العدل تشبه فندق «الريتز» ليس أمراً صعباً.