يكثر الكلام في الآونة الأخيرة عن أنّ «حزب الله» سيستغل الأزمة المالية الحادة التي قد تدخل لبنان في الفوضى من أجل إطاحة اتفاق الطائف كهدف ثابت ومضمر وقديم للحزب، فهل هو في هذا الوارد اليوم؟
 
 
مشكلة «حزب الله» مع اتفاق الطائف مثلثة الأضلع:
 
الأول والأبرز انّ هذا الاتفاق لم يشرِّع سلاحه ومقاومته ولم يميّزه بأنه مقاومة لا ميليشيا، ودعا إلى حلّ جميع الميليشيات من دون استثناء وتسليم أسلحتها وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وهذا ما يفسِّر إصراره في كل بيان وزاري على إضافة فقرة حول مقاومته من أجل أن يعوِّض في البيانات الوزارية ما حرم منه في الدستور.
 
 
فالنموذج الذي يريده الحزب هو نموذج الحرس الثوري في إيران او الحشد الشعبي في العراق، وبالتالي ان يقرّ الدستور بدوره من ضمن الدولة وفوق الدولة.
 
الضلع الثاني يتمثّل بحق الفيتو المذهبي الذي انتزعه في اتفاق الدوحة على أثر استخدامه سلاحه في أيار 2008، فيما اتفاق الطائف نصّ على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، أي انّ حق الفيتو هو للطائفة لا للمذهب، ويدخل طرح الحزب في سياق إطاحة المناصفة لمصلحة المثالثة على خلفية انّ عدد المسيحيين لم يعد يسمح لهم بالمناصفة، وانّ الشيعية السياسية حالة قائمة بذاتها بمرجعيتها الإقليمية ومشروعها السياسي ولا يمكن اختزالها ضمن مذهب آخر، وانه لم يعد بالإمكان التعاطي مع هذه الحالة كما كانت عليه قبل الحرب اللبنانية والثورة الإيرانية.
 
 
الضلع الثالث يتعلق بتركيبة السلطة التنفيذية حيث يعتبر الحزب انّ تخصيص الطائفة الشيعية برئاسة البرلمان غير كاف، وانه يجب ان يكون جزءاً من السلطة التنفيذية على غرار رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني، وبالتالي يجب استحداث موقع شيعي بما يكرِّس المساواة ضمن المثالثة.
 
 
وما تقدّم ليس معلناً من قبل «حزب الله» باستثناء دعوة الأمين العام للحزب إلى مؤتمر تأسيسي سرعان ما تراجع عنها، أو ما تكشّف من النقاشات التي سجّلت في مؤتمر «سان كلو» برعاية فرنسية لشخصيات من 8 و14 آذار في العام 2007، ولكن هذا الجو يعبِّر بدقة عن ضيق ذرع الحزب باتفاق يكبِّله وحاجته إلى دستور جديد يشرِّع سلاحه ويطلق يديه في دوره الداخلي والخارجي، ولأنّ أولوية الحزب دائماً تكمن في سلاحه ودوره المقاوم فإنه ليس في وارد مثلاً أن يُقايض تسليم سلاحه والتراجع عن دوره إلى داخل الحدود اللبنانية مقابل تعزيز نفوذه السياسي، بل يريد تعزيز هذا النفوذ من دون التخلي عن السلاح، والتعزيز يدخل أيضاً في سياق حماية سلاحه ودوره.
 
 
وقد سعى النظام السوري، بعد خروج جيشه من لبنان، إلى الدخول من الشباك بحجّة رعاية اتفاق لبناني من أجل استبدال اتفاق الطائف باتفاق دمشق في سياق سَعيه الدائم إلى الوصاية على لبنان وجعل قرار بيروت مربوطاً بدمشق، وكأنّ الأخيرة لا أطماع لها في لبنان وتقف على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين، ولم يكتب طبعاً لهذه المحاولة النجاح والهدف منها كان تثبيت وصاية سوريا السياسية على لبنان وسلاح «حزب الله» كدور مقاوم ضد إسرائيل.
 
 
وعلى غرار النظام السوري الذي سعى إلى تحويل وجوده المؤقت في لبنان إلى دائم بانتظار الظرف الدولي والإقليمي الذي يتيح له إلحاق لبنان بسوريا دستوريّاً منعاً لأي تحولات تؤدي إلى خروج جيشه كما حصل في العام ٢٠٠٥، فإنّ «حزب الله» يسعى إلى تثبيت سلاحه ودوره في سياسة أمر واقع ضمن الدستور الحالي بانتظار الظروف التي تتيح له تعديله لمصلحة دستور جديد، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل التوقيت الحالي هو الأنسب ليقدم «حزب الله» على خطوته الانقلابية على الطائف؟ وهل سيستغلّ الحزب الأزمة المالية التي في حال استمرارها ستدخل لبنان في الفوضى من أجل تحقيق هدفه بالدعوة إلى مؤتمر تأسيسي يحقّق فيه تعديلاته على أي دستور جديد؟
 
 
من المعلوم انّ اتفاق الطائف لم يولد إلّا نتيجة تقاطع ظروف داخلية سببها العماد ميشال عون بحربه التحريرية، وظروف خارجية تريد الانتهاء من المسألة اللبنانية مع بداية التحضير لإطلاق المسار السلمي بين العرب وإسرائيل وضرورة إنهاء الفوضى اللبنانية منعاً لأيّ تأثير لبناني على هذا المسار. وبالتالي، لولا تقاطع هذه العوامل لَما ولد اتفاق الطائف، ولذلك أيّ دستور جديد يتطلب بدوره تقاطع ظروف داخلية وخارجية مؤاتية.
 
 
ولو افترضنا انّ الظرف الداخلي مؤاتٍ بسبب اقتراب لبنان من حافة الانهيار الشامل ربطاً بالوضع المالي، فهل ميزان القوى الخارجي والداخلي يصبّ في مصلحة «حزب الله» من أجل أن يقدم على خطوة الانقلاب على اتفاق الطائف؟ بالتأكيد كلا، حيث انّ الحزب في أصعب مرحلة منذ تأسيسه، فحاضِنته الأساسية، أي إيران، تمر بدورها في أدق حقبة منذ قيام الجمهورية الإسلامية، بدءاً من العقوبات المشددة عليها، وصولاً إلى محاصرتها مالياً وسياسياً لفرض تنازلات سياسية عليها بالنووي والباليستي والدور، وما بينهما إفهامها أن ليس هناك من خطوط حمر أمام واشنطن التي جاهَرت بقتل قاسم سليماني.
 
 
وفي موازاة الوضع المأزوم لإيران، فإنّ سوريا التي شكّلت الجسر بين طهران وبيروت والداعم المُطلق للحزب لم تعد موجودة على الخريطة السياسية مع انتقال القرار الاستراتيجي في سوريا إلى روسيا، فيما هندسات «حزب الله» السياسية اصطدمت بالحائط المسدود من انهيار البلد مالياً وتحميله مسؤولية هذا الانهيار بسبب دوره الخارجي وتغطيته الداخلية لكل منظومة الفساد، والانهيار يُفقد الحزب القدرة على الإمساك بالقرار اللبناني، إلى فشل حليفه الرئيس ميشال عون في إدارة الأزمة والحفاظ على الستاتيكو، وما بينهما تراجع وضعيته داخل بيئته بفِعل هندساته التي جعلت طائفته معزولة خارجياً وتستقبل الضحايا في مواجهة أصبحت أكبر منها في سوريا وتحمّله مسؤولية الانهيار ربطاً بسياساته الداخلية.
 
 
فالوضع الخارجي والداخلي لا يصبّ في مصلحة «حزب الله»، وبالتالي ليس من مصلحته إطلاقاً في هذا الظرف السعي إلى تحقيق أحد أهدافه بالانقلاب على اتفاق الطائف، بخاصة انه يعتبر انّ الانهيار الحاصل ليس عن طريق الصدفة، بل هو جزء من مؤامرة خارجية ضده لمحاصرته والقضاء عليه وانّ الفوضى تشكّل مدخلاً لتراجع نفوذه من سيطرته على القرار الاستراتيجي إلى سيطرته بالكاد على مناطقه، فيما الانهيار حقيقة ليس مؤامرة ولا شيء آخر بل نتيجة الفشل في إدارة شؤون الدولة.
 
 
وقد يكون أقصى طموح «حزب الله» في هذه المرحلة الحفاظ على ستاتيكو 13 تشرين 1990 مع تعديلاته في 14 آذار 2005، لأنّ دينامية الوضع الجديد ستُفقد المنظومة التي أمسكَت بناصية القرار منذ 30 عاماً بقدرتها على مواصلة الإمساك بهذا القرار، وبالتالي المطروح اليوم العودة إلى الطائف اللبناني الأصلي لا الانقلاب على نسخته المعدّلة من أجل نسخة أكثر سوءاً.