صندوق النقد الدولي يهدد نظام النهب المنظم للمال العام الذي أسسته السلطة السياسية الحاكمة في لبنان منذ زمن بعيد وهو ما لا يريد أي من أطراف السلطة التعامل معه، من دون أن يفهم من ذلك أن صندوق النقد هو بمثابة جمعية خيرية.
 

انتظر اللبنانيون على الرغم من قلقهم على مستقبل البلد كلمة رئيس الحكومة حسان دياب بعد كل الاحاديث التي اجمعت على رفض دفع سندات اليوروبوند مع اصلاحات قيل إنها تتضمن قراراتً جديدة موجعة تطاول سعر البنزين وزيادة القيمة المضافة مع اقتطاع نسب من رواتب التقاعد و أجور الموظفين مع الغاء وزارات وصناديق ومؤسسات عامة. ان هذه الاصلاحات ستتم وستحصل فالخزينة فارغة ومكسورة، على مبالغ صرفت كتعويضات الضمان الاجتماعي ومستحقات المستشفيات وربما جزء من أموال المودعين. 


يبقى توقيت النطق بهذه الاصلاحات التي يجب ان تُسمى ضرائب أكثر مما هي اصلاحات لكن هذا لم يحصل واكتفى دياب بخطاب انشائي مطول ضمّنه تعليق دفع سندات اليوروبوند. الأكيد، أنه كان بمثابة بلاغ رسمي بأن لبنان لم يعد دولياً قادرا على الوفاء بالتزاماته المالية، ما يجعله عاجزاً عن الوفاء بتعهداته الاقتصادية وحتى القانونية تجاه أطراف اقتصادية خارج لبنان. ما يهدد لبنان بإعتباره دولة مارقة، ووضعه في وضعية عزل اقتصادي وحجر مالي، ويتسبب بصدور أحكام دولية بحقه تمس صلب سيادة الدولة واستقلال قرارها .

على أي حال حصل ما حصل وأدخلت القوى التي سمّت دياب لرئاسة الحكومة أدخلت نفسها في أزمة، فنصف مجلس النواب معارض لها بالإضافة للثورة.
معنى ذلك ان الحكومة محاصرة شعبياً ونيابياً ولأنها كذلك فإن رئيسها تمنى في خطابه اعلان الاصلاحات الجديدة او الضرائب.

اقرا ايضا : الكورونا ووكالات التصنيف يدقا ناقوس الخطر

 


ولكن الى متى هذا التأجيل؟ لن يطول الامر طويلاً. .  لم تجد الحكومة حتى الان خياراًبعد الجزم بأن الدول العربية لن تساهم في حل أزمة البلد ومثلها الدول الاجنبية .
فالبرنامج الاصلاحي الذي وعد به دياب سينكشف قريباً، ومعه سينكشف ضعف الحكومة على مواجهة التحديات. 

 

من المستغرب أن في لبنان سلطة بلا دولة مضغوطة مالياً واقتصادياً وسياسياً، ومطلوب منها رفض الوصاية المالية الدولية. والغريب أن ندور وندور على طريق الحل الداخلي ثم نعود إلى صندوق النقد الدولي.هذا إذا أراد اللبنانيون إنقاذ ما تبقى من هياكل الدولة ومن إخراج الاقتصاد من الكارثة . لكن ماذا فعلت الحكومة العتيدة ، بعدما وصل الاحتياط النقدي إلى مستوى حرج يهدد قدرة لبنان على استيراد حاجاته الأساسية من غذاء ودواء. فالرئيس دياب بتبريره لم يشر إلى الخطوات التالية على قرار تعليق السداد. فاستعان بالفصاحة اللغوية للتهرب من إعلان برنامج علاج الأزمة الكارثة التي توشك أن تقضي على كامل الاقتصاد الوطني بما فيه نظامه المصرفي.
المهم اليوم فبعدما فقد هذا البلد أهميته الاستراتيجية في الصراعات الإقليمية والدولية وبعدما باتت مؤسساته السياسية والأمنية الرئيسية من العناصر الرئيسية في محور الممانعة، لم يعد من شيء يقنع الدول العربية بالاستجابة لحل الازمة المالية للبنانيين. 

 

وعلى شاكلة الباب العربي المغلق، لا مجال لمجرد المحاولة في دق الباب الأوروبي. المحاولة الأوروبية والدولية الأخيرة لمساعدة لبنان كانت في مؤتمر سيدرفي 2018 لكنهم اشترطوا القيام بإصلاحات جدية، تضع حداً لفساد الإدارة والسلطة السياسية المتحكمة بها. وهذا ما لم يحصل فوقع الانهيار المنتظر.


لم يبقى من مُساعد، إذن، غير صندوق النقد الدولي. لكن ذلك يعيدنا إلى التردد الذي تبديه الحكومة الحالية في طلب النجدة من الصندوق. لم تطلب حكومة حسان دياب من الصندوق حتى اليوم سوى مساعدة فنية لا ترقى إلى حد برنامج قروض مشابه لما طلبته دول متعثرة أخرى. مع ذلك، تتعرض كل خطوة في اتجاه الصندوق إلى حملة تنديد تنطوي على مستويين ظاهر وباطني. الظاهر من الحملة المعارضة إنطلاقاً من التجارب الفاشلة للصندوق في بعض دول العالم، حيث تلخص برنامجه بإجراءات تقشف تسببت في تحميل الفئات الفقيرة أعباء الإصلاح المالي وانتهت في العديد من الحالات، مثل دول جنوب شرقي آسيا في 1997 والأرجنتين في 2001، بتفاقم سوء الأحوال وتزايد الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى تبني الصندوق آيديولوجيا اقتصادية جامدة لا تأخذ في الاعتبار المعطى الإنساني وتقتصر على تصحيح الخلل الدفتري في جداول الموازنات.


لكن الجانب الباطني من حملات الاعتراض في لبنان تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. فصندوق النقد يطالب السلطات غالباً بضبط دقيق لمداخيلها ومواردها ونفقاتها. ويشمل ذلك مكافحة للفساد ورقابة على الضرائب والعائدات الجمركية والرواتب، ناهيك عن النفقات الاجتماعية من صحة وتربية ورواتب تقاعدية. ويدرك اصحاب القرار أن الجانب الأول، المتعلق بضبط الموارد ووجوه الإنفاق يهدد شبكات التوزيع الطائفية التي تستفيد من مؤسسات الدولة وبالأصح من فسادها في تمويل الزعامات التقليدية. ولا يخفى أن نحو ملياري دولار تذهب سنوياً لشراء الوقود لمؤسسة كهرباء لبنان في حين يشكو البلد من انقطاع مزمن للتيار الكهربائي. وأصبح سراً شائعاً أن القوى السياسية  الطائفية تتقاسم أرباح الاستيراد وأنها تصر على الحفاظ على الدجاجة التي تبيض ذهب، والمسماة استيراد الوقود للكهرباء. وهذا على سبيل المثال لكنه يكفي لتفسير التردد في طلب مساعدة صندوق النقد الدولي.

 

بهذا المعنى، صندوق النقد الدولي يهدد نظام النهب المنظم للمال العام الذي أسسته السلطة السياسية الحاكمة في لبنان منذ زمن بعيد. وهو ما لا يريد أي من أطراف السلطة التعامل معه، من دون أن يفهم من ذلك أن صندوق النقد هو بمثابة جمعية خيرية.