تغيّرت السليمانية وأربيل. فقد ظهرت فيهما العمارات العالية، والطرق العريضة، والفنادق الفخمة، والمطاعم الفاخرة... ولكن ليس للمواطن الكردي العادي فيها نصيب.
 

إن مشكلة كثيرين من العراقيين أنهم حين يحبّون يغضبون، بشمم وإباء، حين تنسب لحبيبهم منقصة، وحين يكرهون لا يقبلون، قطعيا، بأن تذكر لمن كرهوا أي فضل أو فضيلة.

 

وعليه فإن على هؤلاء وأولئك أن يُقلّبوا صفحات التاريخ العراقي، على الأقل، من يوم 11 مارس 1970 وحتى اليوم، بعقلانية وبعيدا عن العواطف، وأن يسجلوا حلقات مسلسل الآلام العراقي التالي الطويل.

 

فبغض النظر عن كل ما فعله صدام حسين بالعراق والعراقيين، وبنفسه وأسرته وحزبه، فإن ما قدّمه للشعب الكردي العراقي في 11 مارس 1970، لم يقدّمه أحد غيره، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في الغد المجهول.

 

فرغم ما في ذلك البيان الذي منح الأكراد حكما ذاتيا لأول مرة في تاريخهم القومي العريق من نواقص كان يمكن العمل على تصحيح ما ينبغي تصحيحه منها، فإنه كان يمكن أن يكون فاتحة خير للعراق كله، وللشعب الكردي قبل سواه، وللمنطقة أيضا. ولو أنُفقت الأموال الطائلة التي أحرقتها الحروب الطاحنة في نصف قرن، على التعمير والتطوير، وعلى أمن المواطن ورخائه، لكان العراق وكردستان والمنطقة، اليوم، جنة الله على أرضه، ولو كره الكارهون.

 

ولو كانت القيادة السياسية الكردية أكثر صبرا وحكمة، وأعمق فهما للظروف الموضوعية، وللواقع المفروض على شعب كردستان، ولو تصرّفت بإنكار ذات، واضعة مصالح المواطن الكردي فوق الطموح الشخصي المتعجّل إلى السلطة والثروة والاستقلال، ولو اعتبرت الحكم الذاتي مرحلة واعدة ينبغي الحفاظ عليها وتطويرها، ولو لم تدخل مع دموية صدام وعنجهيته في صراع تكسير العظام، لكانت وفّرت على الأكراد، قبل غيرهم من العراقيين، جميع ما حلّ بهم، منذ أوائل السبعينات وحتى اليوم.

وللضمير والوجدان فإن الشيء نفسه لا بد أن يقال عن صدام حسين. فلو كان، وهو القائد الأعلى، أكثر سماحة وصبرا وحكمة، لتغيّر وجه التاريخ ولكان العراق وكردستان العراق، اليوم، بألف خير وعافية وسلام.

 

ففي 15 سبتمبر 1970 عمد إلى أسلوب الاغتيال الغادر لقتل الملا مصطفى البارزاني، فأرسل إليه وفدا من رجال دين فخخهم، دون علمهم، وفجّرهم في حضرة البارزاني، دون أن يتحقق له ما أراد. والحقيقة أن تلك الحادثة هي التي فتحت أبواب الجحيم على الأكراد وعلى العراق، وعلى نظام صدام نفسه في نهاية المطاف. وإليكم حلقات هذا المسلسل الدامي.

 

تحالف القادة السياسيون الأكراد مع شاه إيران وحملوا السلاح ضد الدولة العراقية، ظنا منهم بأنهم يعارضون صدام حسين وحده. ولولا ذلك الحلف لما اضطر صدام إلى توقيع اتفاقية الجزائر 1975، ليعطي الشاه بموجبها، ما يرضيه من شط العرب، وليجعله يغدر بالقادة الأكراد، وينهي ثورتهم في أيام.

ولولا تلك الاتفاقية التي اعتقد صدام في العام 1980، بأنه أصبح أقوى وأقدر على تمزيقها لما اندلعت حرب الثماني سنوات مع الخميني.

 

ولولا تلك الحرب الغبيّة الخائبة لما حلّ بموطني حلبجة وباقي مدن كردستان العراق والعراق كله، وإيران ذاتها، من قتل وتهجير وتدمير وسفك دماء.

ولا تلك الحرب التي خرج صدام حسين منها منهكا ماليا وسياسيا لمّا غامر باحتلال الكويت. ولولا احتلال الكويت لما جاءت أميركا.

 

ولولا دخول أميركا إلى الساحة، وقرارها العمل على التخلّص من نظام صدام، لما وجد القادة السياسيون الأكراد أنفسهم في الحضن الأميركي الإيراني السوري الأسدي، ولما قبلوا أن ينخرطوا في مخططات إسقاط نظام صدام لأهداف ودوافع ليس فيها مصلحة للمواطن للكردي قبل غيره من العراقيين.

ولولا مؤتمرات المعارضة، المموّلة من أميركا والمسيرة إيرانيّا، لما تحالف القادة السياسيون الأكراد مع أحزاب وتنظيمات وشخصيات المعسكر الديني الطائفي المتخلّف الإيراني العراقي سيء الصيت.

 

ومن كل حلقات هذا المسلسل الطويل كان قادة الأحزاب الكردية العراقية، وما زالوا، الشريك الأقوى في نخبة السياسيين المحتكرين السلطة والثروة والسلاح في العراق، رغم أن أحزاب الدين الإيرانية، ظاهريا فقط، هي التي تمسك بعصا القيادة، بالدعم الخارجي وبقوة الميليشيات.

فعمليا لا يمكن تمرير أي قرار سياسي أو مالي فيدرالي سيادي، لا في الحكومة ولا البرلمان ولا في رئاسة الجمهورية، إذا ما عارضته أحزاب السلطة في كردستان العراق.

 

ولو استعرضنا صفقات التنصيب العليا للرؤساء والوزراء والمدراء والسفراء وقادة الجيش والقوات المسلحة، وخصوصا تعيينات الموظفين الكبار والصغار، في وزارات المالية والخارجية والدفاع، خصوصا، لوجدنا أن القول الفصل والنهائي فيها، جميعها، كان لأربعة، مسعود وجلال وأميركا وإيران.

فلم يكن ممكنا تشكيل مجلس الحكم واختيار أعضائه الأقوياء، والضعفاء أيضا، دون اضطرار بول بريمر والمرجعية والوصي الإيراني إلى ترضية مام جلال وكاك مسعود، وقبل أي أحد آخر.

 

ولنتذكر تنصيب إياد علاوي رئيسا مؤقتا للوزراء، للإعداد لانتخابات 2005. ثم تنصيب إبراهيم الجعفري ثم طرده بعد سنة واحدة فقط، والمجيء بنوري المالكي مكانه 2006. وفي 2010 فرض مسعود شخصيا قرار التجديد له في مؤتمر أربيل. وفي 2014 أسقطه مسعود، نفسه، وجاء بحيدر العبادي لوراثته، بالتوافق مع حزب الدعوة وأميركا وإيران.

 

وعلى هذا فإن القادة السياسيين الأكراد، وليس الشعب الكردي، يتحمّلون المسؤولية، أكثر من غيرهم، عمّا حلّ بالعراق وبالعراقيين، منذ العام 2003 وحتى اليوم، من مصائب ومآتم وحرائق وانتكاسات واختلاسات وفشل وخراب. وذلك لأنهم قبلوا منذ أيام المعارضة العراقية السابقة، وهم المبشِرون بالديمقراطية والعدالة، أن يتقاسموا السلطة والثروة والسلاح مع أحزاب وشخصيات يعلمون علم اليقين، بأنها سلفية متخلّفة ودكتاتورية وفاسدة وغير وطنية ومرتهنة لحكومة خارجية قاتلت في السابق، وقاتلت لاحقا وستقاتل مستقبلا، من أجل احتلال العراق الذي تعتبره ولاية كانت تابعة لها انتزعت منها قبل قرون.

 

فلو رفض السياسيون الأكراد أن يتحالفوا مع إيران وأحزابها ووكلائها، ولو أصرّوا على إقامة نظام وطني عراقي ديمقراطي حقيقي عادل وعاقل ومستقلّ لا يخضع لوصاية دينية أو عشائرية أو عسكرية، يحافظ على حقوق جميع مواطنيه بالتساوي، لغيّروا مصير الوطن كله، وربما المنطقة، ولما تحمّل الشعب العراقي، بعربه وأكراده وشيعته وسنّته وجميع مكوناته الأخرى، ما تحمّله من آلام وأحزان واقتتال واختلاس وسفك دماء وتهجير وتهميش وفشل وهدر للمال العام.

 

فقد سقط نظام صدام، وقام النظام البديل الحالي، وصار من حقنا أن نسأل، هل أقام الشركاء المتحاصصون في بغداد نظام العدل والديمقراطية العراقي الذي كانوا به يثرثرون؟ وهل وفى القادة الأكراد لشعبهم بما كانوا يعدونه به طيلة أيام الاقتتال والعمالة للأجنبي؟

 

فمخطئ من يظن بأنّ هناك فرقا بين سلوك أحزاب السلطة في بغداد وبين حكّام الإقليم وأخلاقهم. فالفارق الوحيد هو أن في بغداد شللا حاكمة فاسدة كثيرة تتناطح في ما بينها على المناصب والمكاسب والرواتب. وفي كردستان شلّتان، فقط لا غير. وهنا وهناك أصبح المال كله، والسلطة كلها، للحكام المتحالفين، ولأبنائهم وأبناء إخوتهم وأعمامهم وأخوالهم وأصهارهم، ولعبيدهم والسماسرة الملتحقين بهم. أما المواطن، عندنا وعندهم، فله الله، ونصيبُه الجريُ وراءَ لقمة العيش، والخوفُ من غضب الزعيم.

 

نعم، لقد تغيّرت السليمانية وأربيل. فقد ظهرت فيهما العمارات العالية، والطرق العريضة، والفنادق الفخمة، والمطاعم الفاخرة، وآخر موديلات السيارات الباذخة، ونوادي الليل الساهرة، ولكن ليس للمواطن الكردي العادي فيها نصيب، بل لنخبة النخبة من المسؤولين وذويهم، ولمن يدور في أفلاكهم.

 

أما المدن والقرى الأخرى فما زالت في انتظار التغيير والتعمير والتنوير، باقيةً على حالها، من أيام الفقر والقهر والنهب القديم.

 

فالأموال الطائلة التي هبطت، بالحق أو بالباطل، على حكومة الإقليم، لم تستطع أن تقيم مشروعا واحدا إنتاجيا استراتيجيا صناعيّا أو زراعيّا يؤمّن حياة الأجيال القادمة من غوائل الزمان. فهي نجحت فقط في جعل أصغر فرد من أفراد الأسرتين الحاكمتين في أربيل والسليمانية من أصحاب الثروات الطائلة المهرّبة والمخزنة في مصارف أوروبا وأميركا ودبي، وجعلت أغلى القصور وأفخمُها وأغلاها في لندن وباريس ونيويورك وواشنطن ودبي لأبناء مسعود وجلال، وأبناء إخوتهم وأصهارهم وأبناء العمومة والخؤولة ولبعض الذيول.