لم يكن ينقص مشهد الفساد اللبناني إلّا «كورونا». يبتسم أحد الظرفاء ويقول: طاقم الفساد في لبنان ليس «شاطراً» فقط، إنّه محظوظ أيضاً. فعندما «نشَّفت» الدولة وجفّت «الموارد» في الداخل، انفتحت أمامه آفاق لم يكن يتوقّعها، و«رَحْ يشيلها» من فم المساعدات الإنسانية والطبية!
 

في الساعات الأخيرة، تردَّد كلام في بعض الأوساط المطلعة عن توجُّه لبنان «المفلس» إلى طلب المساعدة المالية من البنك الدولي لمواجهة «كورونا». وفي المبدأ، هذا الأمر طبيعي، لأنّ الفيروس الذي دخل إلى لبنان ضيفاً ثقيلاً جداً، في أصعب لحظاته التاريخية، يُنذر بأن يصبح أكبر من القدرات المتوافرة. وهذا ليس حال لبنان فحسب، بل الكثير من بلدان العالم حتى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية.

 

المتخصّصون يقولون، إنّ النمو العنقودي exponential لعدد المصابين سيفرض على لبنان تحدّيات تفوق بالتأكيد قدرة مستشفى الرئيس رفيق الحريري والمراكز التي يتمّ تجهيزها حالياً للاستيعاب. والنموذج الإيطالي مؤلم. فالإصابات ستكون بالمئات ثم الآلاف وربما عشرات الآلاف بعد أسابيع وأشهر. وثمة انطباع لدى هؤلاء بأنّ لبنان، الذي فتح الباب لدخول الفيروس في الأيام الأولى، من دون ضوابط كافية، برّاً وجوّاً، أتاح بنفسه المجال لتفاقم المشكلة.

 

ولعلّ الأصعب في هذا المجال هو معالجة العارض الأساسي الذي يتمثّل بتأمين كميات وافية من آلات ضخّ الأوكسيجين لمساعدة المصابين على التنفس. فمن الأسباب الأولى للوفاة بالمرض، اضطرابات القلب والشرايين والتنفس. وكذلك، يُفتَرض توفير عدد كافٍ من غرف العزل ومقدار مناسب من الأدوية. وفي ظلّ الوضع المالي الذي يعيشه لبنان، لن يكون هذا الأمر سهلاً.

 

فهل أولوية «الدولار المدعوم» من مصرف لبنان، وهو يتضاءل، يجب أن تكون لعلاجات «كورونا» أم للدواء عموماً أم للبنزين والفيول الضروري لتوليد الكهرباء أم للخبز؟

 

هنا يتذكّر البعض تأكيدات صدرت عن العديد من الدول والجهات المانحة، ومفادها أنّها لن تترك لبنان ينهار إنسانياً. ومنذ اللحظة الأولى لانكشاف الأزمة المالية والنقدية، في الخريف الفائت، تبلّغ لبنان كلاماً واضحاً من مرجعيات دولية مفاده:

 

«لا تتوقعوا أن نزوّدكم أي مساعدة مالية إضافية ما لم تفوا بوعودكم بالإصلاح. هذا أمر لن نتراجع عنه. ولكن، يمكنكم أن تحصلوا على المساعدات الإنسانية عند الحاجة، أي إذا وقع الانهيار وبدأت تتظهَّر عندكم حالات الجوع والمرض!».

 

من سوء أقدار اللبنانيين أنّ هذه النبوءة تحقَّقت: الطاقم السياسي «ممانع» ضدّ الإصلاح… لكنه مطمئنٌ إلى أنّ «التسوُّل الإنساني» متاحٌ له.

 

ولأنّ «الحاجة أُمُّ الاختراع» و»الغاية تبرِّر الوسيلة» عند الماكيافيليين، بدأت تولد فكرةٌ «عبقرية» جديدة لدى هذا الطاقم: ننتزع جزءاً من حصَّة لبنان في البنك الدولي، المخصَّصة لتمويل مشاريع التنمية، ومقدارها 100 مليون دولار، ونحوِّلها إلى المجال الإنساني الطارئ، أي تمويل المواجهة في مجال «كورونا».

 

في المبدأ، هذا التحويل يبدو منطقياً. ولكن أيضاً في بلد ينخره الفساد المزمن في كل شيء، ويتمَّ إخفاء الحقائق والأرقام والوقائع، سيكون صعباً عدم التفكير في أنّ هذا الطاقم السياسي «المتعطش» للدولارات سيمرِّر الـ100 مليون دولار بمنتهى الشفافية، «من أجل عيون المرضى بكورونا فقط». ففي السوابق، هناك شبهات حقيقية حول طرق التصرّف بالمساعدات الإنسانية، بأموال النازحين وسوى ذلك الكثير.

 

وفوق ذلك، يعتقد متابعون أنّ هذا الأمر يستثير حساسية بعض المجتمع الدولي، ولاسيما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبعض العرب، لأنّ القرض سيكون بتصرُّف وزارة الصحة التي يتولّاها اليوم «حزب الله». وبالتأكيد، خطوات البنك الدولي لا تمرّ من دون موافقة هذه القوى.

 

إذاً، سيكون مبرَّراً طرح السؤال: هل إنّ القوى السياسية الشريكة في السلطة ستستفيد من الملايين التي يُراد تأمينها من البنك الدولي، خصوصاً في ظل أزمة الشحّ في الموارد بالدولار؟

 

يقول المطلعون، إنّ هذا الأمر يعيد إلى الأذهان سعي هذه القوى، منذ عقود، إلى استثمار بعض المواقع في المؤسسات الدولية المانحة، بهدف «تطويعها» لكي ترضخ لماكينة الفساد اللبناني. فمن المعلوم مثلاً، أنّ البنك الدولي لم يوافق على بناء سدّ بسري إلّا بعد تقرير ثالث من الخبراء، فيما التقريران السابقان أوصيا بالامتناع عن إنشاء هذا السدّ لأنّه واقع على فالق روم الذي شهد زلزالاً كبيراً في العام 1956.

 

وهذا ما يدعم ظنون البعض بوجود تنسيق بين الجهات اللبنانية المستفيدة من استجلاب الدعم المالي وبعض العاملين في المؤسسات الدولية المانحة.

 

المصلحة متبادلة: الطرف اللبناني يريد أن تتدفَّق الأموال ويجري صرفها في جو من انعدام الشفافية، فيما هؤلاء العاملون لهم مصلحة في إنجاز التلزيمات مع لبنان و«تكبير» حجم محفظتهم من المبالغ التي ينفِقُونها للتنمية، ما يؤهّلهم الحصول على مكافأة من إدارات مؤسساتهم، ومنها البنك الدولي.

 

ولطالما تبادل السياسيون الاتهامات بنهب الأموال الآتية من الجهات المانحة. وهذا جزء من مسار النهب الذي أوصل البلد إلى الخراب. ولذلك، فإنّ حكومة الرئيس حسّان دياب هي اليوم على محكّ التجربة. فهل ستقع في التجربة؟

 

إذا غضّت الحكومة طَرْفَها عن أي نهب جديد يستغلُّ الدعم الإنساني المطلوب لمواجهة «كورونا»، فستثبت أنّها نسخة من سابقاتها، بل هي أكثر خطراً لأنّها ستقدّم الخدمة للطاقم القديم الفاسد وتوفّر له أن يختبئ تحت الغشاء الرقيق من «التكنوقراطية».