غداً، يوم آخر... لبنان دخل رسمياً عهد الإفلاس المالي. لكن المصائب، كما تُظهر تجارب الأمم، عبر التاريخ القديم والحديث، لا ترتبط بالإفلاس في حد ذاته، بقدر ما ترتبط بما بعده، أي بالطريقة التي يتمّ التعامل فيها مع الأزمة. فهل الدولة اللبنانية جاهزة للتعامل كما ينبغي مع الإفلاس، الذي أُعلن بشكل احتفالي في 7 آذار 2020؟
 

لا تزال القوى السياسية تتحكّم بعقول وقلوب اللبنانيين، بالإضافة الى تحكّمها بمصير البلد وناسه. والدليل انّها حوّلت اعلان الافلاس، وهو يُفترض انّه بمثابة اعلان هزيمة، يشعر خلالها أي مسؤول بالخجل والإحراج والحاجة الى الاعتذار وربما الاعتزال، الى انتصار وهمي عنوانه «لن ندفع».

 

صحيح انّ اجتماع بعبدا، الذي ضمّ كل أركان الدولة، هدَفَ الى تأمين تغطية وطنية لقرار اعلان الإفلاس، وعدم تحميله الى رئيس الحكومة منفرداً، لكن المسؤولين نجحوا في تحويله الى لقاء شبيه بلقاءات اعلان الاستقلال، وبدت لهجة البيان الختامي للإجتماع بمثابة بث خبر الانتصار في حرب مصيرية. في حين انّ القرار في حقيقته هو مجرد اعلان افلاس وهزيمة الطبقة السياسية، وبدء مرحلة جديدة ستكون أصعب من طريق الجلجلة التي تحدث عنها رئيس الحكومة حسان دياب.

 

هذا الكلام لا يعني انّ قرار تعليق (moratorium) دفع الديون الخارجية (يوروبوند) هو في حدّ ذاته قرار خاطئ، لكن الخطيئة تكمن ربما في التوقيت والتحضيرات لما بعد القرار. إذ من المعروف انّ الدول التي تواجه أزمات مالية مماثلة، يشكّل اعلان الإفلاس فيها في اكثر الاحيان، نقطة تحوّل مريحة للناس والاسواق، بسبب انقشاع غبار الأزمة، ووضوح الرؤية، وبدء رحلة العودة الصعبة والموجعة الى وضع اقتصادي ومالي طبيعي. لكن المعطيات المتوفرة عندنا، لا توحي بأنّ اعلان افلاس لبنان سيكون بداية لرحلة الصعود الى سطح الماء، بل يبدو القرار وكأنّه دفشة اضافية للغوص اكثر نحو القعر.

 

في التوقيت، كان يُفترض ان يُتخذ قرار تعليق الدفع منذ سنة او اكثر، أي منذ أدرك المسؤولون انّ الدولة لم تعد قادرة على الاستدانة والاستمرار. واضطر مصرف لبنان، وبطلب من المسؤولين، الى تغطية فجوة الإقتراض من امواله الخاصة التي هي في النتيجة اموال البنوك، اي اموال الناس. في ذلك التوقيت، كانت امكانية الوصول الى اتفاقات رضائية مع المُقرضين سهلة، ولن تتضمّن شروطًا صعبة. كذلك، كانت امكانية الاتفاق مع صندوق النقد على خطة إنقاذ (Bailout) بشروط ميسّرة ممكنة أيضًا.

 

أما في الاستعدادات لمرحلة الافلاس وما بعده، فانّها تبدو كارثية بلا أي مبالغة. وما قاله رئيس الحكومة في ما يُفترض انّه توصيف للخطة الإنقاذية التي ستواكب اعلان الافلاس، تشبه كل شيء إلّا الخطة. والكلمة التي توجّه بها الى اللبنانيين لم تتضمّن حرفًا واحدًا اضافيًا عن وعود يسمعها اللبناني والمجتمع الدولي منذ سنوات طويلة، ولم تعد تقشعر لها الأبدان، ولا حتى تُحرِّك مشاعر الاشمئزاز، لأنّها صارت وكأنّها غير موجودة. إلّا اذا اعتبرنا انّ المداخيل الاضافية التي تحدّث عنها دياب من خلال خطة تغويز الغاز صالحة للبناء عليها لإنقاذ بلد يحتاج، بالإضافة الى حوالى 50 مليار دولار ليس معه منها دولارًا واحدًا، الى ثقة يبدو انّها لن تعود.

 

طبعاً، لا يمكن تحميل حسان دياب مسؤولية هذا الوضع، فالرجل قام بدور الناطق الرسمي بإسم منظومة سياسية قضت على البلد، ومن ثم راحت تفتش عن جهات تُلصق بها تهمة الانهيار و«المجاعة» (بمفهومها العصري طبعًا) المقبلة بلا شك. لكن مسؤولية رئيس الحكومة تبدأ من نقطة الخوف من قلب الطاولة. فهو يُفترض أنّه بات يعرف خطورة الوضع، ويعرف ايضًا أين تكمن المشكلة وأين يوجد الحل، ولا يُفترض به أن يراوغ، وأن يحمّل مثلاً الاقتصاد الريعي مسؤولية ما جرى كبند أول، ومن ثم يضع الفساد بعده.

 

ما اعلنه رئيس الحكومة مفاجئ، لأنّه في بعض النقاط بدا عارفاً بما يجري، وقال بوضوح أننا نواجه أزمة غير مسبوقة، تشمل ثلاث أزمات رئيسية: أزمة ديون سيادية، أزمة مصارف، وأزمة عملة تنهار. فهل يمكن معالجة أزمة من هذا العيار، بالحديث عن تغويز الغاز ومعالجة أزمة الكهرباء؟

 

الأزمة الحقيقية تبدأ اليوم، وهي حتمًا لا تتعلق بإعلان الافلاس، بل بما بعده. والمفارقة هنا انّ الحكومة المغلوب على أمرها لجهة منعها من ولوج خطة إنقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، بذريعة السيادة والشروط القاسية التي يفرضها ويدفع ثمنها المواطن، سوف تضطر الى اعتماد هذه الشروط في المستقبل القريب لجهة رفع الضرائب وتحرير سعر صرف الليرة وفرض رسوم اضافية على البنزين، من دون أي أمل بأن تنقذ هذه الاجراءات البلد. وستتكرّر تجربة سلسلة الرتب والرواتب، عندما أُعلنت حزمة ضرائب وحزمة إصلاحات، تمّ تنفيذ بنود الضرائب وبقيت الإصلاحات حبرًا على ورق.

 

غداً، ستعلن مؤسسات التصنيف خفض لبنان الى درجة التعثّر (افلاس)، وسيصبح تعامل المصارف اللبنانية مع السوق المالي العالمي شبه متعذّر، وسنواجه أزمة إيجاد بديل من الاعتمادات لاستيراد ما هو ضروري.

 

في الموازاة، ستكون المفاوضات مع المقرضين أكثر من شاقة، وربما شبه مستحيلة. والدول التي واجهت أزمة مماثلة ذهبت الى المفاوضات في جيبها قرار عدم الدفع، وفي جيبها الثاني خطة تُظهر كيف ستصبح الدولة قادرة على الدفع في حال وافق المقرضون على إعادة هيكلة وجدولة الديون. طبعًا، هناك دول فاوضت بلا خطط واضحة وبلا وجود كفيل موثوق مثل صندوق النقد، لكنها فشلت و»جاع» شعبها، ولا تزال عالقة في القعر.

 

في لبنان، تذهب الدولة الى المفاوضات وفي جيبها قرار تعليق الدفع، وفي جيبها الآخر لائحة وعود قديمة، ووعد جديد بتنفيذ خطة تغويز الغاز. فهل تنجح؟