تعتبر العلاقة اللبنانية - السورية من الملفات الخلافية بين اللبنانيين، وليس من مصلحة الحكومة ولا اللبنانيين إثارة ملفات خلافية في مرحلة انهيار مالي تستدعي حصر التركيز بالإنقاذ بدلاً من تسريع وتيرة الانهيار.
 

من غير الطبيعي أن يبادر أحد الوزراء إلى زيارة دمشق لبحث عودة اللاجئين السوريين قبل أن تكون الحكومة وضعت خطة واضحة لعودتهم وناقشتها على طاولة مجلس الوزراء تجنّباً للعشوائية والتسييس، وابتعاداً عن الخلافات والانقسامات التي رافقت هذه القضية.

 

الحكومة في سباق مع الوقت من أجل فرملة الانهيار في مرحلة أولى، ما يعني انّ عليها الانكباب على معالجة ومقاربة الأولوية المالية واستبعاد كل ما من شأنه أن يوتّر المناخات السياسية ويعيد الاصطفافات القديمة، كما عليها ان تحاول ان تستعيد ثقة الناس المفقودة أساساً، والابتعاد عن خطوط التوتر الإقليمية والدولية في ظل حاجتها لمساعدات خارجية تواكب الإصلاحات الداخلية، ومن المستغرب أن «تشتري» في لحظة حَرجة لبنانيّاً للغاية خصومات مجانية داخلية وخارجية.

 

هذا لا يعني انّ ملف عودة النازحين ليس من الملفات الأساسية التي تتطلب مقاربة جدّية، بخاصة انه يرهق الدولة في مرحلة لم يعد في استطاعتها تحمُّل اي أعباء إضافية، ولكن المفاجأة انّ حكومة جديدة، وتسعى الى نيل فرصتها وتحمل «كرة نار» كما وصفها رئيسها، تلجأ إلى خطوات غير مدروسة وتتّبِع سياسات من سبقها في مسألة دقيقة وحساسة للغاية.

 

ولا يستطيع رئيس الحكومة أن يضع اللوم على منتقدي حكومته في الوقت الذي عليه ان يعمل بصمت من أجل أن يثبت للناس الثائرة على كل شيء بسبب سوء أوضاعها انّ الحكم الذي أصدرته بحق حكومته كان متسرّعاً، فيما التجربة الأولية غير مشجّعة على الإطلاق من تَبنّي موازنة قديمة إلى فيروس كورونا الذي انتشر بسبب السقف الأيديولوجي الذي وضعه «حزب الله» وما بينهما تحويل المصارف إلى «كبش محرقة» ومحاولة تغيير النظام الليبرالي اللبناني، واستطراداً وجه لبنان وأسلوب عيش اللبنانيين.

 

فالناس والقوى السياسية المعارضة للحكومة تنتظر منها ان تشكّل قطعاً مع المرحلة السابقة لا استمراراً لها، لأنّ الإدارة السياسية السابقة أوصَلت البلد إلى الانهيار ولا يجوز مواصلة السياسات نفسها، والقطع يبدأ مع وضع الخطط العلمية الواضحة المعالم والبعيدة عن الارتجالية وتصفية الحسابات السياسية.

 

وأيّ مقاربة لملف النازحين السوريين يجب ان تأخذ في الاعتبار المعطيات الآتية:

 

أولاً، ما الذي يحول دون عودة اللاجئين إلى سوريا؟ فإذا كان النظام السوري يريد إعادتهم، كما يدّعي البعض، فلماذا لا يفتح الحدود لإعادتهم؟ ولماذا لا يسعى الى هذه العودة ما دام انه رأس النظام الذي يفترض به أن يسهر على شعبه ويحرص على عودته إلى أرضه؟ ولماذا لا يوجّه النداءات المتكررة من أجل عودتهم؟ ولماذا لا يشجّعهم على العودة؟ ولماذا لا يؤلّف اللجان من أجل محاورتهم وتوفير الضمانات الأمنية والحياتية لهم؟ وهل النظام بحاجة لِمن يتوسّط بينه وبين شعبه؟ وألا يمون عليه العهد و»حزب الله»؟ وأين أصبحت المكاتب التي فتحها الحزب لتنظيم العودة؟ ومعلوم انّ كل ذلك لا يحصل لأنّ النظام السوري لا يريد عودتهم لاعتبارات ديموغرافية وسياسية.

 

ثانياً، المهجرون في لبنان عادوا إلى قراهم او بمعظمهم بعد انتهاء الحرب وزوال خطوط التماس، وتوقف الأعمال العسكرية في أغلب المناطق السورية لا يعني انتهاء الحرب التي اندلعت بين النظام والشعب. وبالتالي، مفتاح العودة الفعلية يكمن في الوصول إلى تسوية سياسية، ويستحيل ان تتحقّق العودة قبل التسوية في ظل فريق منتصر وآخر منهزم ولا يملك أي ضمانات بأن يبقى على قيد الحياة.

 

ثالثاً، تتطلّب عودة اللاجئين تمويلاً عربياً ودولياً من أجل إعادة إعمار المدن والقرى المدمّرة، فيما المجتمعان الدولي والعربي ليسا في هذا الوارد قبل تحقيق السلام السوري وإعادة الاعتراف بسوريا ضمن الشرعيتين الدولية والعربية، وحتى موسكو التي تتولى الوصاية على النظام السوري لم تنجح في إعادة النازحين، وكل التهليل الرسمي قبل لقاء القمة بين الرئيسين بوتين وعون ذهب أدراج الرياح بعد اللقاء مباشرة.

 

رابعاً، اللاجئون ليسوا في وارد العودة إلى سوريا خشية من اعتقالهم او قتلهم، كما لا يمكن إلزامهم على العودة بالقوة، فضلاً عن تلقّيهم مساعدات دولية قد يفقدونها مع عودتهم التي تفتقد أساساً للضمانات الأمنية والمالية من أجل إعمار منازلهم أو ترميمها، ولسان حالهم هل يعودون للسكن في العراء ومن دون عمل وحياتهم مهددة؟ ولذلك يجب تقديم الضمانات الأمنية والحوافز المالية لهذه العودة، وبالتالي كل التركيز يجب ان ينحصر في كيفية توفير الشروط المطلوبة للعودة الآمنة والفورية وليس المناكفات السياسية.

 

خامساً، لبنان لم يعد يتحمّل استمرار اللاجئين على أرضه، ولكن إعادتهم لا تتم عن طريق المزايدات وتسجيل النقاط، بل من خلال وضع خطة عملية تأخذ في الاعتبار حقيقة الموقف الدولي والعربي والسوري، وما لم يحصل ذلك ستبقى الأمور ضمن دائرة الخلاف والتراشق السياسي والإعلامي وتنظيم مسرحيات عودة لبضع عشرات، ومن ضمن الأفكار التي يمكن ان تتضمنها الخطة إقناع العواصم العربية بتوزيع اللاجئين عليهم، او إقناع المجتمعين الدولي والعربي بتوفير مستلزمات نقلهم من لبنان إلى منطقة آمنة داخل سوريا برعاية أممية.

 

لا يفترض بحكومة تقول انها مستقلة ان تتبنّى سياسات فريق ٨ آذار التي لم تؤد إلى أي نتيجة، بل ساهمت في تسريع الانهيار بفعل ما تثيره من انقسام وتوتير وعشوائية، وكيف بالحري في ظل الانهيار الحاصل؟ وإذا كانت زيارة هذا الوزير تمّت من دون التنسيق مع رئيس الحكومة وموافقته فهذه مشكلة وتدلّ عن تفرُّد في ملف هو من اختصاص الحكومة مجتمعة لا وزارة بعينها عليها تنفيذ خطة الحكومة وليس ان تفتح على حسابها، وفي حال نال موافقة رئيس الحكومة فالمشكلة أكبر لأنه يعني انّ الأخير يريد تحت قناع التكنوقراط تمرير وتهريب ما فشل «حزب الله» في تحقيقه في كل الحكومات المتعاقبة.

 

وتضاف زيارة دمشق إلى لائحة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحكومة في الأسابيع الأولى على انطلاقتها، ولا يفترض ان تتكرر هذه الزيارة قبل ان تقرّ الحكومة خطة شاملة ومفصّلة للعودة، ولكن يبدو انّ من دفع الحكومة إلى التقيُّد بالسقف الذي وضعه للتعامل مع الأمن الصحي والأمن المالي سيدفعها إلى التقيُّد بالسياسة نفسها في الملف السوري، كما انّ الرهان على خطة متكاملة تضعها الحكومة وتعمل على متابعتها عربياً ودولياً يبدو أنه أشبه بوهم، خصوصاً في ظل فشلها لغاية اللحظة بوضع خطة عملية بمهل زمنية لإخراج لبنان من ورطته الاقتصادية، حيث انّ قرار تعليق دفع سندات اليوروبوندز كان متوقعاً ورئيس الحكومة لم يقل جديداً، والأنظار لم تكن شاخصة على موقف تعليق السداد المعروف أصلاً، إنما على ماذا تمخّضت الاجتماعات المفتوحة التي وصلت الليل بالنهار، أي ما هي الخطة الإصلاحية والإنقاذية التي ستعتمدها الحكومة من أجل الحد من الآثار السلبية لتعليق الدفع وإقناع المجتمع الدولي بمَدّ يد المساعدة للبنان؟ ولكن لا خطة لغاية اللحظة ولا من يحزنون.

 

وإذا كانت الشروط الدولية واضحة بأن لا مساعدات إلّا في حال تنفيذ الإصلاحات، فهل الحكومة قادرة على تجاوز السقف الأيديولوجي والمصلحي والمنفعي والزبائني للأكثرية الحاكمة من أجل تحقيق الإصلاحات المرجوّة؟