تجسّد المرحلة الحالية التي يعيشها اللبنانيون مع دولتهم، نموذجاً لعمل العصابات.
 
المسألة لم تعد تتعلق بفقدان الثقة بين المواطن ودولته. أصبحت حال أهل السلطة متقدمة جداً في أبعاد السطو، والتقاذف الشعبوي للقرارات والمسؤوليات. ولم يعد الأمر ينحسر بتحسين صورة المسؤولين وأدائهم، إنما بات ينعكس خطراً على مصير البلاد والعباد، الذي تتقاذفه القوى السياسية ومراكز القرار بالدولة. ويتم رمي المواطنين من هالك إلى مالك إلى قابض الأرواح. لقد تأصل عمل "العصابات" وتمت مأسسته وترسيخ فكرته في عقول اللبنانيين ونفوسهم منذ سنوات. لمسوها بشكل مباشر مع الإجراءات المصرفية في الحجز على الودائع وتسليم نتف منها، بحيث لم يعد الموظف قادراً على تحصيل راتبه الشهري.
 
القرار القضائي ونقضه
لكن التأسيس لمنطق عمل العصابات كان قد بدأ من زمن، وهو أصيل وفي صلب هذا النظام وهذه التركيبة، وأكثر ما يتجلى فيه هذا العمل، هو آلية التعاطي مع اللاجئين السوريين والفلسطينيين مثلاً، وإبتزاز العالم بهم. وأخطر ما جرى في انتهاج حروب العصابات، هو عندما كان هناك جنود لبنانيون مخطوفين على يد الجماعات الإرهابية والمسلحة، فيما كانت أجهزة الدولة اللبنانية تعمل على توقيف رجال ونساء وأطفال سوريين وتزجهم في السجون لمبادلتهم مع تلك الجماعات الإرهابية.
 
تتعمّق فكرة العصابات أكثر في الصراع بين القوى السياسية فيما بينها، وتقاذف المسؤوليات وادعاء الإنجازات، وبين هذه القوى والقطاع المصرفي. واللبنانيون وحدهم يدفعون الثمن، بأموالهم، بأرزاقهم، وبأحوالهم المعيشية المتدهورة. عندما تجتمع العصابات على تنفيذ سطوة معينة، تضطر إلى التلاحم والتعاضد لإنجاح العملية، وبعدها لا بد أن يقع الخلاف بين مجموعاتها على الغَنْم وتوزيعه. وهذا ما يحصل اليوم بين السلطة السياسية والقطاع المصرفي، وظهر في قرار المدعي العام المالي علي ابراهيم بالحجز على أصول المصارف، ونقضه من قبل مدعي عام التمييز غسان عويدات، والتي أريد لها أن تأخذ طابعاً مذهبياً أيضاً، أي أن القرار صادر عن قاض شيعي، خصوصاً أن جو الطائفة الشيعية سياسياً وشعبياً يقف ضد المصارف، فيما من نقض القرار هو قاض سنّي، تزامن نقضه للقرار مع موقف لسعد الحريري.
 
عون ومليارا دولار
إنها أسوأ المراحل والحقبات التي يمر فيها لبنان على الصعد كافة. الأنهيار لا ينحصر فقط في الاقتصاد والليرة، بل هذه كلها نتاجات لانهيار سياسي وفكري، فلا ينتج عنه سوى الفراغ والشعبوية. ويأتي استخدام مصطلح العصابات في هذا المجال لأن هذا بالفعل ما حصل في صدور قرار المدعي العام المالي ومن ثم إلغاؤه. طوال السنوات الماضية اجتمعت القوى السياسية على كل اختلافاتها على ما يسمى هندسات مالية. وكل القوى استفادت منها مالياً. وهذه السياسات في حد ذاتها هي التي أوصلت إلى هذه الأزمة. واليوم، من استفاد منها يريد تحميل المسؤولية إلى المصارف. خصوصاً على مبعدة أيام من استحقاق سندات اليوروبوند التي تريد المصارف تسديدها، لأنها تملك الجزء الأكبر منها، بينما الدولة عاجزة عن الدفع.
 
أموال الناس لدى المصارف، وأموال المصارف مع الدولة والدولة عاجزة. تجتمع المصارف والدولة على تدفيع الثمن للناس. فلا سياسة مالية أو اقتصادية من دون قرار سياسي في لبنان. عندما استفحلت الأزمة وقع الخلاف بين المصارف والدولة، رئيس الجمهورية يريد الانتقام من حاكم مصرف لبنان وإقالته لتعيين بديل منه. ومنذ أيام يضغط رئيس الجمهورية بكل ما أوتي من قوة على رياض سلامة والمصارف لتسديد سندات الدين، ولاسترجاع ملياري دولار من الأموال التي أُخرجت من لبنان قبل فترة، لأن ضخ ملياري دولار قد يريح الوضع العام.
 
رفضت المصارف ذلك. ذهب رئيس جمعية المصارف سليم صفير إلى قصر بعبدا صباح الخميس، لم يكن اللقاء إيجابياً مع عون، الذي دفع بضغط كبير على المدعي العام المالي لإصدار القرار بتجميد أصول المصارف. وهي عملية ابتزازية، كان اللبنانيون وحدهم سيدفعون ثمنها، لأن تجميد أصول المصارف يعني إعطائها الذريعة لعدم تسليم الأموال للبنانيين. وستكون الحجة بأن الأموال أصبحت مجمدة. لن يكون بإمكان أي لبناني الحصول على أمواله أو رواتبه من المصارف. وإذا ما كان أي مواطن لديه عقار أو سيارة مرهونة لأحد المصارف، إذا ما كان قد اشتراها بموجب قرض مصرفي، تصبح في عداد المحجوزات.
اليوروبوندز والهندسات الجديدة
كانت الغاية إدخال المواطنين في أزمة أكبر مع المصارف. طبعاً القرار بخلفيته شعبوي بعيداً عن الشوائب القانونية والقضائية التي تعتريه. وهو يندرج في إطار الضغط على المصارف ولعبة الابتزاز وعض الأصابع التي تشد الخناق على أعناق اللبنانيين. بعد هذا القرار، دخلت مختلف المؤسسات المالية الدولية على خطّ الأزمة، وهددت بوقف التعامل مع المصارف اللبنانية. وهذا يعني أزمة أكبر. إذ سيصبح لبنان معزولاً بشكل كامل مالياً، ولن يعود هناك إمكانية لإدخال حبة دواء واحدة إلى البلد. ما دفع أركان السلطة والعهد إلى التراجع عن هذا القرار الشعبوي وغير المحسوب. طبعاً المصارف تتحمل مسؤولية كبيرة وهائلة، ولكن العيب ليس فيها وحدها، بل بالنظام بكل تركيبته، وبالسلطة السياسية التي تتخذ القرارات وتسن التشريعات التي تلبي مصلحة المصارف وسياستهم.
 
لعبة الإبتزاز مستمرة، كما لعبة الكشتبان التي تجيدها السلطة اللبنانية بنقل المشكلة من مكان إلى آخر، وهذا ما سيحصل اليوم السبت بالتعاطي مع استحقاق اليوروبوند. بما أن الضغط على المصارف للإتيان بملياري دولار من الخارج لمعالجة الأزمة وترييح السوق لم ينجح، يتم العمل على إبتكار صيغة حلّ، خصوصاً أن التحذيرات الدولية في الساعات الأخيرة تزايدت بشأن عدم الدفع، والحث على تسديد الدين المتوجب، والدخول بمفاوضات مع الدائنين.
 
ولذلك سيعقد اجتماع موسع في قصر بعبدا قبل جلسة مجلس الوزراء لطرح كل الصيغ والاحتمالات لمعالجة الأزمة. وحسب ما تشير المعلومات فإن العودة إلى لعبة الهالك والمالك وقابض الأرواح أصبحت حتمية، من خلال اختراع جديد يقوم على تسديد سندات الدين بشكل وهمي، أي يدفع مصرف لبنان المبلغ المتوجب دفعه، مقابل أن يعود ويطرح سندات خزينة جديدة في الأسواق، لمدة خمس سنوات، فتقوم المصارف بشراء هذه السندات مجدداً، بفائدة أقل، وهكذا تكون الأموال قد عادت إلى المصرف المركزي، ولم يخسر شيئاً وفق هذه الهندسة المالية الجديدة، التي حتماً ستوجب إجراءات قاسية على اللبنانيين، من زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى زيادة ضريبة على المحروقات وغيرها من الإجراءات التي لن تحلّ المشكلة بل ستفاقمها.