يُشكّل تحديد نسبة الأموال المُحوّلة الى الخارج منذ 17 تشرين الأول 2019، وكشف هوية أصحابها ومحاسبتهم قضائياً، خطوة متقدّمة في مسار المحاسبة الذي فرضته «انتفاضة 17 تشرين»، وتفتح الباب أمام استعادة الأموال المنهوبة منذ 1990. لكنّ التضارب في الأرقام، فضلاً عن التذرّع بغياب القوانين التي تُجرّم هذه التحويلات، قد يُؤديان الى إجهاض الأمل في محاكمة الذين استفادوا من النظامين السياسي والمصرفي في لبنان، شرعاً أو سرقةً، وعند «أول أزمة» هرّبوا أموالهم الى الخارج، ففاقموا الأزمة المالية التي انعكست على صغار المودعين وأصحاب الشركات والمؤسسات والمستوردين.
 

تُشكّل نسبة ودائع المودعين الصغار في المصارف اللبنانية 85 في المئة من الحسابات المصرفية. فهناك مليونان ومئتا ألف حساب في المصارف، 85 في المئة منها ودائع بأقل من 75 مليون ليرة.

 

وتُعاني هذه الشريحة الكبيرة من المودعين، تحديداً من يملكون حسابات مصرفية بالدولار الأميركي، الذلّ على أبواب المصارف، لكي يحصلوا على عشرات الدولارات شهرياً. وفي حين لا يُمكن أيّ موظف، مهما كانت رتبته ومهما بلغ راتبه، سحب أكثر من 600 دولار من «معاشه» شهرياً، ولا يُمكن للتجار والمستوردين استخدام «دولاراتهم» الموجودة في المصارف لإتمام عمليات الإستيراد، تمكّن «المودعون الكبار» من تحويل مئات ملايين الدولارات الى الخارج بـ«تلفون واحد».

 

وإذ يختلف تحديد مفهوم هذه الأموال، بين من يعتبرها مُحوّلة شرعياً ومن يؤكد أنّها مُهرّبة ويجب محاكمة مُهرّبيها، تَشخص الأنظار الآن الى القضاء المُختص الذي يتابع هذه القضية، ويأمل اللبنانيون في أن يثبت هذه المرة استقلاليته ونزاهته، ويُطلق «القطار السريع» للمحاسبة، بلا توقّف عند أي اعتبارات أو محسوبيات أو تهديدات.

 

في 14 كانون الثاني الماضي، كشف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، خلال الاستماع إليه في لجنة الاقتصاد الوطني والصناعة والتخطيط النيابية، أنّ المبلغ الذي حُوّل بعد 17 تشرين الأول 2019، ملياران و600 مليون دولار، مليار ونصف مليار منها هي قيمة استحقاقات ومدفوعات للمصارف (سندات، تحويلات إلكترونية، بطاقات ائتمان...).

 

وفي معلومات لـ«الجمهورية»، توصّلت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، المولجة التحقيق في هذه الحسابات والأموال، الى تحديد نسبة الأموال المُحوّلة الى الخارج بين 17 تشرين الأول 2019 وكانون الثاني 2020، بنحو نصف مليار دولار من 500 حساب ومن خلال نحو 1500 عملية تحويل.

 

كذلك حصرت المبلغ المالي المُحوّل من أشخاص معرّضين سياسياً أو نافذين (Politically exposed person) بنحو 150 مليون دولار، كاشفة عن أنّ مودعاً غير لبناني حوّل نحو 250 مليون دولار من حسابه في مصرف لبناني الى الخارج. ويُشير حصر نسبة الأموال المُحوّلة من «مستفيدين سياسيّاً» بـ150 مليون دولار، حسب مصادر متابعة هذا الملف، الى نيّة في إجراء «تهريبة» جديدة للأموال المُهرّبة، تُخلّص أصحابها ومُسهّليها من العقاب القانوني والأخلاقي.

 

في المقابل، توضح مصادر مصرفية أن لا قانون يمنع تحويل الأموال الى الخارج، ولا تُعتبر كلّ الأموال المُحوّلة مُهرّبة أو مشبوهة، وهي تكون مشبوهة حين يكون مصدرها مشبوهاً وتبرز منها شبهة تبييض أموال.

 

لكنّ كشف هوية أصحاب الأموال المُحوّلة الى الخارج من سياسيين أو معرّضين سياسياً، يُمهّد الى سؤالهم قضائياً: من أين لكم هذا؟ وبالتالي يبقى الرهان في المحاسبة الجدّية على القضاء، إذ إنّه الوحيد المولج الإطلاع على نتيجة تحقيق هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، التي لا يُمكن مساءلتها نيابياً أو مطالبتها بالكشف عن طريقة تحديدها الأموال المحوّلة والحسابات المشبوهة.

 

وفي حين لا يُمكن «تجريم» من حوّل أمواله الى الخارج قانوناً، حسب المصادر المصرفية، يشير الساعون الى محاسبة مهرّبي الأموال الى الخارج، أنّ هذه العملية غير أخلاقية وتنمّ عن انعدام المسؤولية الوطنية، إذ إنها تمّت في وقت حسّاس وأدّت الى تعميق الأزمة ومفاقمتها، الأمر الذي أثّر على بقية المودعين، وعلى الإستقرار المالي والنقدي في البلد. وينطلقون من مبدأ المساواة الذي يكفله الدستور، فلا يُمكن التعاطي مع اللبنانيين بمكيالين، واحد للسياسيين والنافذين وآخر لـ«الشعب العادي».


 
 

وفي إطار العمل على استعادة هذه الأموال، سلّمت مجموعة من اللبنانيين، الثلاثاء المنصرم، سفيرة سويسرا لدى لبنان مونيكا كيرغوز، عريضة موقّعة من 10 نواب لاسترداد الاموال المهرّبة من لبنان الى المصارف السويسرية، وهم نواب «الكتائب اللبنانية» سامي الجميّل ونديم الجميّل والياس حنكش، والنواب: جورج عقيص، ميشال معوض، مروان حمادة، فؤاد مخزومي، شامل روكز، جان طالوزيان، وبولا يعقوبيان. وتعهّد هؤلاء النواب المبادرة الى سنّ القوانين اللازمة في المجلس النيابي لاسترداد هذه الاموال ومواكبة التنفيذ بين لبنان وسويسرا. وتُقدّر التحويلات المالية الى الخارج في عام 2019 بـ 30 مليار دولار.

 

وفي حين تعمل كتل ولجان نيابية عدّة على سنّ التشريعات اللازمة في هذا الإطار، توضح مصادر نيابية، أنّ سويسرا لا يُمكنها مساعدة لبنان بلا استنابة قضائية واضحة. مشدّدة على ضرورة رفع السرّية المصرفية عن رؤساء أحزاب ومتعهّدين، وكل من يتعاطى مع الدولة ولديه «نافذة» الى سرقة المال العام.

 

وتشير الى ضرورة إقرار آلية لاستعادة الأموال المُهرّبة أو المنهوبة، لجهة التنسيق مع الجهات الداخلية والخارجية، والتواصل مع مكاتب المحاماة في البلد المعني، وترجمة المستندات، والتنسيق مع وزارة الخارجية والسفارة اللبنانية في سويسرا أو أي بلد آخر، إذ إنّ هذا العمل ليس من اختصاص القضاء.


 
 

فهل يتحرّر القضاة من سطوة الجهات السياسية التي عَيّنتهم؟ وهل ينتزع القضاء استقلاليته بيده؟ وهل ستقتصر المساءلة والمحاسبة على المصرفيين أو أنها ستشمل السياسيين؟ وهل يكون القضاء السُلطة الأولى من السلطات الدستورية الثلاث التي تستعيد ثقة اللبنانيين؟