لن يطول انتظار ما كثر الحديث عنه منذ فترة بصفته من «الخيارات المؤلمة»، فهي باتت على الأبواب لمجرد دخول البلاد مدار «القرارات الصعبة» على وقع مجموعة من الاستحقاقات التي تشابَكت بين ما هو نقدي ومالي وما هو صحي وبيئي وتربوي، بالإضافة الى هواجس العائلات اللبنانية التي اكتوَت بنار «كورونا» والغلاء. وعليه، كيف يمكن الفصل بين ما هو منطقي وخلافه؟
 

إقتربت موجات التشويش وترددات السيناريوهات المسرّبة بمختلف أشكالها ومضمونها في بعض المجالات المالية والنقدية من الانحسار، لمجرد اقتراب المهلة التي حدّدها رئيس الحكومة حسان دياب من نهايتها المتوقعة السبت المقبل لاتخاذ القرار النهائي. وطبيعي ان تتكشّف تباعاً المراحل اللاحقة منها على دقتها وخطورتها. فما باحَ به دياب قبل يومين عن وضع الدولة ومؤسساتها وفقدانها مناعة الدفاع عن أبنائها لم يكن مجرد وهم، لا بل انها المرة الأولى التي يصارح فيها مسؤول مواطنيه والعالم عبر مجموعة القناصل الفخريين بما آلت اليه الأوضاع في البلاد وبما يتكشّف لديه يومياً في معظم الملفات التي تجري مقاربتها، ولاسيما منها تلك التي خصّصت لها مجموعة من اللجان الوزارية الاقتصادية والنقدية والإنمائية والبيئية وشؤون الطاقة والخدمات العامة.

 

وعلى هامش المنتظر من القرارات، ورغم خطورة الوضع، لا يبدو سهلاً إجراء التقويم الحقيقي لمدى تضامن أهل الحكم والحكومة إزاء ما هو مطروح من استحقاقات تتوارَثها الحكومات المتعاقبة منذ سنوات. ومردّ ذلك الى تعطّل لغة الأرقام والتوقعات العلمية لتسود مكانها كل أشكال المناكفات السياسية المبنية على منطق المحاصصة في القطاعات الحيوية، الى درجة بلوغ مرحلة من «الكانتونات» المحميّة من هذا الطرف أو ذاك.

 

فحتى اللحظة، ورغم مجموعة الأفكار التي أثارها وفدا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إضافة الى بعثتَي الاستشاري المالي والقانوني، لم تحسم الأمور بالصيغة التي تدفع الى الانتقال الى مرحلة أخرى وخصوصاً في ما هو واقع على نار حامية ويتصل بمصير دفع «سندات اليوروبوندز» والخطوات المالية الملحقة بها وتردداتها المحتملة على بقية السندات. لا بل فقد أضيفت توصياتها واقتراحاتها الى بقية العناوين التي تناقشها اللجان الوزارية ومسؤولي القطاعات المصرفية والنقدية والإقتصادية والخبراء، والتي ما زالت دون بلوغ مرحلة القرارات النهائية بعد، وسط تعدّد السيناريوهات المتناقضة حيال القضايا المطروحة.


 
 

وأيّاً كانت القرارات التي سيعلن عنها دياب السبت المقبل في شأن «سندات اليوروبوندز» دفعاً أو تأجيلاً أو تمنّعاً عن الدفع، فإنّ التداعيات السياسية هي الأخطر. فترددات أيّ من هذه الخيارات على اللبنانيين لن تكون سهلة ولن تمر مرور الكرام. لأنّ إشارة دياب قبل ايام الى عجز الدولة في حماية مواطنيها أحيَت قسماً من الإنتفاضة، فكيف ستكون عليه ردّات الفعل عندما تتكشّف الحقائق الناجمة عن التعاطي بأزمة السندات وملحقاتها؟ خصوصاً إذا أُرفِقت بما هو منتظر على المستوى النقدي الوطني وما يمكن ان تستتبعه سلسلة القرارات الخاصة بمواجهة أزمة تقنين العملات الأجنبية وتطبيقها بطريقة لا تحترم أدنى مستويات العدالة والمساواة بين اللبنانيين وسط صعوبة الوصول الى ما يؤدي الى انفراج محدود.

 

ففي ظن المقرّبين من دياب أنّ ردات الفعل إذا بلغت موجة التصعيد المنتظر لن تكون مُستغربة. فأهل الحكم مختلفون حولها، وهم يعيشون لحظات عابرة من الإحباط قبل أن يتلقوا ما تريده المعارضة السياسية والشعبية. وهو ما سيشكّل في نظرهم خطراً جديداً وداهماً على عمل الحكومة التي فشلت حتى الأمس القريب في تحقيق أي انجاز يمكن ان يشكل صدمة ايجابية. لا بل هي تراكم السلبيات واحدة بعد أخرى، ويزيد في الطين بلة الارتفاع غير المسبوق لسعر الدولار الأميركي الذي تجاوز أمس عتبة الـ 2650 ليرة لبنانية، وهو ما يوحي أن كل التوقعات السلبية السابقة باتت على مرمى حجر من ان تتحقق ولن تبقى وهماً. وعندها، سيظهر انّ كل الاتهامات التي كِيلَت لمَن هَدّد أو مَس النقد الوطني وسلامته لم تكن سوى اتهامات باطلة وَجُب العودة عنها.

 

لا يتوقع المطلعون على كثير من الحقائق المخفية على اللبنانيين سوى مزيد من ردات الفعل السلبية، التي قد تنتقل بالبلاد ومعها الحكومة العتيدة الى مكان لا يرغب أحد في دخوله من اهل الحكم والحكومة. وانّ ما هو متوقع سيكون خطيراً الى درجة غير مسبوقة، فالاستحقاقات المقبلة لا تقف عند حدود التعاطي مع أزمة السندات، فمخاطر تأمين كلفة الدين العام لها محطاتها المقبلة مع كل استحقاق، سواء ذلك المتصل بحجم المليارات التي تم تهريبها الى الخارج أو تلك التي نهبت، ومعها طريقة توفير المحروقات لإنتاج الطاقة الذي له محطاته المفصلية ايضاً وأزمة النفايات على الأبواب، وما هو مطروح لا يكفي لتدارك مخاطر تَكدّسها مجدداً في الشوارع. وما ينتظره قطاع الأفران لا يبشّر بالاستقرار الموعود، وان احتاجت الصناعة الوطنية الى مزيد من ملايين الدولارت بعد تسييل المئة مليون دولار الاولى من حساباتهم الشخصية فماذا سيكون الجواب؟

 

وكل ذلك لا يعني انّ مسلسل الأزمات انتهى او تراجع، فالأزمة التربوية التي تَسبّب بها وباء «كورونا» ما زالت تُلقي بظلالها السلبية على القطاع التربوي، والحديث عن تعطيل السنة الدراسية بمختلف مستوياتها من الآن هو اقتراح يخضع للبحث ايضاً، فالسعي الى كسب العلم عن بُعد له حدود لا تشمل جميع طلاب لبنان.

 

وأمام هذه الصورة السوداوية لا يبقى امام المسؤولين سوى البحث عن مخارج سياسية تساهم فيها القوى التي استدرجت الحصار الدولي والعربي على لبنان بقرارات حاسمة تفيض في نتائجها على القرارات الإقتصادية والنقدية. وهنا تندرج المخاطر التي انتهت إليها زيارة وزير الخارجية ناصيف حتي لفرنسا، والتي لم تأتِ سوى بمزيد من الملاحظات والتحذيرات من استمرار تَخلّف اللبنانيين عن النأي بأنفسهم عن أزمات المنطقة وسلوك مسار الاصلاح المتوقف على استمرار الرغبة باحتكار القطاعات كما جرى توزيعها وسط المُكابرة التي تعبّر عنها موجات الاتهامات المتبادلة التي لا تغني فقيراً. أليس الخلاف حول آلية التعيينات الادارية وسَعي البعض الى صَرف النظر عنها يؤشّران الى استمرار اهل الحكم في توجهاتهم القاتلة لكل اشكال الشفافية وفقدان احترام مبدأ الكفاية الى النهاية التي تُبقي البلد أسير سياسات الدكان المحلية وطريقة إدارة المزرعة!