سلطة الشعار أصبحت في حد ذاتها مصدرا كافيا للشرعية. وما كان ذلك إلا معادلة خسران متواصلة. تراها إسرائيل بوضوح وتبني عليها مستوطنات أخرى وأخرى.
 

ساعة تفهم إسرائيل أن الفلسطينيين قادرون على تحرير أرضهم، وعلى إلحاق الضرر باستقرارها ووجودها نفسه، لن تبقى مستوطنات، ولن تكون الدولة الفلسطينية “جبنة سويسرية” كما تقترح صفقة الواقع الذي صنعته سلطة الوحل.

إذا قِستَ قرار حكومة محمد أشتية بمقاطعة إسرائيل اقتصاديا، على كل “صناعة القرار” الفلسطيني، فلسوف تعرف كيف تحول الكلام الفارغ إلى سلعة الاستهلاك الوحيدة التي تملكها السلطة الفلسطينية.

سلطة لا تملك السيطرة على حدودها أصلا، تريد أن تستورد النفط من العراق وتريد أن تقاطع العجول الإسرائيلية، ولا تعرف إلى أين تذهب بالمواد الزراعية التي ينتجها الفلسطينيون. هذا هو الحال، إنه المأساة بعينها.

القرار غير المدروس، لا ينم عن عشوائية سياسية فحسب. إنه ينم عن عشوائية ذهنية أكبر؛ عشوائية سيطر عليها تصور الكلام الفارغ على أنه فعل مؤثر. سلطة شعار. لا سلطة فكر. سلطة حكي. لا سلطة حساب. لا زائد ولا ناقص. لا ضرب ولا قسمة بين حقائق وأرقام. فقط حكي. “طق حنك”، “ثوري” طبعا.

وللأمانة، فإن “طق الحنك” الثوري، الخارج عن مقاييس الحساب، لا يزال يبيع. وهذه ليست مصيبة الفلسطينيين وحدهم. إنها مصيبة العرب أجمعين. فالكلام الفارغ بيّاع إلى يومنا هذا. يُغري أهل العواطف الجياشة، فيدفعهم إلى جهنم، أو بئس المصير على الأقل. وهذا ما كان. وما ظل يكون، إلى أن نتعلم الزائد والناقص في لعبة الحساب الجاري لمعادلات الاقتصاد والسياسة.

ذهب الرئيس محمود عباس إلى مجلس الأمن لكي يحتج على “صفقة القرن”، وقدم خطابا مؤثرا، أكد فيه التزامه والتزام سلطته بكل العهود والوعود التي تم قطعها في أوسلو. بما في ذلك طبعا محاربة الإرهاب، وليس فقط عدم التورط فيه. فعاد بخفي حنين.

هل كان الرئيس عباس لا يعرف ماذا سوف يحصل؟ في الحقيقة، نعم. لم يكن يعرف. ذهب إلى العواهن على العواهن، ليخبط الخبطة. فكانت خبط عشواء حقيقية. شيء يشبه مقاطعة محمد أشتية الاقتصادية بالضبط. كيف وصلنا إلى هنا؟

على مر ثلاثة عقود من الزمن، ظلت السلطة الفلسطينية ترى التمدد الإسرائيلي في أراضي أوسلو الفلسطينية ولم تفعل شيئا. ولا هي حسبت الحساب لما سيأتي من بعدها.

هل كانت لا تعرف طبيعة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي؟ هل لم تقرأ التطلعات الإسرائيلية؟ في الواقع لم تعرف ولم تقرأ. لقد راهنت على سلطة الكلام؛ على سلطة الاحتجاج والتنديد. أما تحت السطح فقد ظل التنسيق الأمني قائما، حتى أصبحت السلطة الفلسطينية، من ناحية حساب الواقع، جزءا من جهاز المخابرات الإسرائيلي. تخدمه وتمتثل لمتطلباته الأمنية، بينما يُغريها الأمل، بأن يأخذ بإسرائيل العطفُ لكي تمنح الفلسطينيين دولة، حتى ولو كانت على أشد تبعية ممكنة.

ويوم انتهى المشروع الاستيطاني الإسرائيلي إلى أن مزق مشروع الدولة، أو وهمها، جغرافيا واقتصاديا، وحوّل التجمعات السكانية الفلسطينية إلى كانتونات مغلقة، والأرض إلى “جبنة سويسرية”، جاء التهديد بوقف “التنسيق الأمني”، ولكنه ظل جزءا من بضاعة الكلام الفارغ. جاءت مديرة وكالة المخابرات المركزية إلى السلطة، لكي تصفع من شاءت بالحقيقة البسيطة، وهي أن السلطة الفلسطينية ليست سوى جزء من جهاز المخابرات الإسرائيلي. بما في ذلك رواتب النخبة الأمنية التي تعتمد عليها السلطة في حماية نفسها. فتوقف الحكي عن الحكي. وغلبت الحقائق على “طق الحنك”.

لا يوجد مشروع وطني فلسطيني. وهذه السلطة لم تعد تمثله أصلا. إنها سلطة تعرّت من كل قدرة على خدمة هذا المشروع. ولكي لا يُساء الفهم، فإنها -نعم- وريثة مناضلين وشهداء مخلصين؛ وريثة مشروع تحرر. إلا أنها خذلته في النهاية فعجزت عن خدمته.

يمتلك الرئيس عباس، وحفنة ممن حوله، شرعية نضالية تستحق التقدير. إلا أنها شرعية ظل المرء يأكل منها حتى بادت وأغبرت. ليس في ذلك تخوين ولا تجريم. هذا غير ضروري أصلا. ولكنه عجز وفشل. سوء حساب وتقدير كانا من ثمرات نقص القدرة على قراءة الزائد والناقص، وعلى التعامل معه بفاعلية.

لقد وجدت سلطة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، “فتح” على وجه أخص، حيال وضع لم تقرأه جيدا. ولا هي استدركت. ولا كانت قادرة على حسبان الحساب لما سيأتي. فلمّا أخذتها العزة بالإثم، آثرت أن تراهن على الشعارات والأماني الفارغة، حتى اتضح أنها فارغة بالفعل.

“صفقة القرن” مسار. إنها ليست قرارا اتخذه رئيس لا يعرف من تاريخ الصراع شيئا. دونالد ترامب، قرأ الواقع فقط. أو ما انتهى إليه، فحوّله إلى “صفقة”.

عندما يكون الأمر مسارا، أفلا تسأل نفسك، كيف تركته يمضي؟ أفليس من المسؤولية الثورية أن تقف في وجهه وتقلب الطاولة عليه وعلى “أبو الذين خلّفوه”، منذ البدء؟ ألم تكن هذه هي المسؤولية؟ أم أن “السلطة” كانت هي الإغراء؟

من هذه السلطة بدأ الضياع. ومنها بدأت الصفقة، حيث لم يعد أمام سلطة الكلام أكثر من الكلام عن سلام يتم تدميره على أرض الواقع، يوما بعد آخر.

فإذا لم يمكن لانتفاضتين فلسطينيتين أن تسمحا بتحسين الأداء السياسي تجاه المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، فما الذي يمكنه أن يفعل؟ أهي مسؤولية “الأطماع الصهيونية” وحدها؟ أم أنها مسؤوليتك الخاصة حيالها؟

ما هي المشكلة في “الأطماع الصهيونية”؟ المشكلة هي أنت عندما لا تعرف ماذا تفعل حيالها. هناك “أطماع صهيونية” في الهند، فلماذا لا تكون لك أطماعك الخاصة في يافا وحيفا وتل أبيب؟

الأجوبة السلبية على هذه الأسئلة قد تكشف الكثير من أوجه الفشل، إلا أنها تعني في النهاية أن السلطة الفلسطينية حين وجدت نفسها في الوحل، فقد آثرت أن تمضي فيه قدما.

يقول المسؤولون الفلسطينيون إنهم لا يريدون حلّ السلطة لأنها “مكسب وطني”. مكسب لمن؟ الشعب الفلسطيني لم ير من هذا “المكسب” إلا ضياع أرضه وضياع الأمل.

والأمر لم يتم طرحه بوصفه خيارا حقيقيا، وإنما بوصفه تهديدا أعرج فحسب. أي بوصفه جزءا من سلطة الكلام الفارغ على الذين ما فتئوا يقعون ضحية له. وفي النهاية، لا التنسيق الأمني توقف، ولا تم حل السلطة.

حتى اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، بوصفه تهديدا آخر، يتعثر. وكأن أصحاب هذا التهديد لا يعرفون أشكال الابتزاز والتهديد الحقيقي الذي سوف تلجأ إليه إسرائيل لمنع مقاضاتها.

سلطة حماس في غزة، ارتكبت ما هو أسوأ عندما وجهت سلاح مقاومتها المزيفة إلى صدور الفلسطينيين أنفسهم، وعندما وضعتهم في السجون لتتعلم في أجسادهم فنون التعذيب.

 

ثم تحوّل كلٌّ من السلطتين إلى قوة طاردة للمناضلين، وقوة تجريم وتخوين لكل من يمكنه أن يتخذ موقفا نقديا منهما. وأصبح التفكير بخيارات وطنية تتجاوز الكلام الفارغ، كفرا.

سلطتان، صار الشعب الفلسطيني يهرب منهما ليبحث شبابه عن لجوء في أوروبا. ذلك الشباب الذي كان يوما يجلس “ركبة ونص” مع الـ”آر.بي.جي”، في مقابل الدبابات الإسرائيلية.

“حماس” تمسكت بشعار المقاومة، ولم تقاوم إلا الأحرار من أبناء الشعب الفلسطيني الذين حكمتهم بالقهر. وباعت قرارها الوطني لمن يدفع أكثر. ولم يكن قرارها وطنيا على الإطلاق. كان قرارا حزبيا فحسب، يغطيه الكثير من الزيف والدجل. وانتهى الانقسام الفلسطيني إلى سبب آخر للقول إن الفلسطينيين لا يستطيعون إدارة دولة. وكلا السلطتين لم تنشئ مؤسسات تقترب من المعايير الدولية المطلوبة لتوفير الاحترام. ولا هي احترمت الشعب الذي تحكمه. ذلك أن “سلطة الشعار” أصبحت بحد ذاتها مصدرا كافيا للشرعية. وما كان ذلك إلا معادلة خسران متواصلة. تراها إسرائيل بوضوح وتبني عليها مستوطنات أخرى وأخرى.

للخروج من مستنقع الوحل الراهن، مطلوب استراتيجية فلسطينية جديدة، كما هو مطلوب قيادة جديدة لها. هناك شيء حقيقي ظل غائبا عن سلطة الكلام: الشعب الفلسطيني في الأرض والداخل والشتات معا. هذا هو أصل القوة الأول.

فخذوا السلطة ودعوا الثورة للناس. بعيدا عن هذه السلطة التي أعجزت نفسها بنفسها، فإن منظمة التحرير الفلسطينية يمكنها أن تُستأنف ويُعاد بناؤها. ويمكن للفلسطينيين أن يبتدعوا من أشكال المقاومة ضد الاحتلال ما يبتدعوا. وكل الخيارات يجب أن تكون مفتوحة. ولا شيء يُستبعد منها، لكي لا تسطو مفاهيم على مفاهيم مسبقا.

يمكن لسلطة “المكسب” أن تحارب الناس لو شاءت. وهو ما تفعله على أي حال. لا توجد مشكلة. سلطة كسلطة الجنرال فيشي، لن تؤثر كثيرا في قدرة الفلسطينيين على المقاومة.

منظمة التحرير التي تحولت إلى سلطة، هي التي يجب أن تخرج من السلطة، لتعود إلى الثورة، ولتعود الثورة إلى شعبها، ولتتحرر من كل قيود أوسلو، بل ومن كل قيود مسبقة أخرى.

المسدس الذي طرد الاحتلال الإسرائيلي من بيروت يمكنه أن يطرد الاحتلال من فلسطين. خمسة ملايين فلسطيني لن يعجزوا عن تحويل حياة الاحتلال إلى جحيم متواصل.

إسرائيل ليست دولة عظمى. إنها دولة هشة. إنها دولة فوضى، وشعب ممزق، برغم كل ما قد يبدو من قوتها العسكرية. وثمة أشكال وخيارات لا تحصى للمقاومة. كل ضرر، مقاومة. هذا هو الأساس.

كان يحسن بالسلطة أن تسأل نفسها: إذا لم تكن قادرا على إلحاق الضرر بالاحتلال، فبأي معنى تريده أن ينسحب؟

ساعة تفهم إسرائيل أن الفلسطينيين قادرون على تحرير أرضهم، وعلى إلحاق الضرر باستقرارها ووجودها نفسه، لن تبقى مستوطنات، ولن تكون الدولة الفلسطينية “جبنة سويسرية” كما تقترح صفقة الواقع الذي صنعته سلطة الوحل.