أعمى مَن لا يرى انتصارات الانتفاضة منذ 17 تشرين الأول. ولكن، أيضاً، أعمى مَن لا يراها اليوم جالسة في قطار الانتظار. وبين الانتصار والانتظار، فارق طفيف في الشكل وهائل في المضمون. والمضمون رهن بقرارٍ يصنعه أهل الانتفاضة أنفسهم إذا أرادوا...
 

في مطلع أيار 2005، كانت "ثورة الأرز" قد بلغت ذروة انتصاراتها. فالقوات السورية خرجت من لبنان قبل أيام، والعماد ميشال عون يستعدّ للعودة من منفاه الباريسي خلال ساعات، والمساعي مكثفة لإخراج الدكتور سمير جعجع من السجن (تحقّق ذلك في تموز)، وسط دعم دولي وعربي نادر، بقيادة الرئيس الأميركي جورج بوش.

 

في الواقع، تلك اللحظة تحديداً كانت تاريخية ليصنع اللبنانيون ثورتهم، بالشعارات التي يرفعونها اليوم، بعد 15 عاماً: "كلّن يعني كلّن". كان ممكناً آنذاك "ضربُ الحديد وهو حامٍ" وتغيير الطبقة السياسية التي عاشت في تلك المرحلة وعاثت فيها فساداً. فتحرير لبنان من وصايةٍ مزمنة كان يجب أن يُطلِق تحوّلات عميقة في تاريخه السياسي.

 

ولكن، وبعد أسابيع قليلة من مشهدية 14 آذار المليونية، ظهرت علامات الشيخوخة المبكرة على أبطال الثورة، "ثورة الاستقلال الثاني". "داخوا" لمجرد أنهم حقّقوا أهدافهم الأولى، المرحلية. وبمعظمهم، استفاقوا على مكاسب المرحلة السابقة التي يمكن أن تهرب من أيديهم.

 

في العمق، عمد معظمهم إلى خطاب انتهازي سياسياً وطائفياً ومذهبياً يجذب الجماهير ويؤمّن ازدهار الزعامة. وفي هذا المناخ المعقَّد، رفضت بكركي إسقاط رئيس الجمهورية تحت ضغط الشارع.

 

آنذاك، صدر تعليق مُعبِّر عن ديبلوماسي لبناني مخضرم: "نحن خبراء بخسارة ماتش رِبْحان". واليوم، يعود هذا الديبلوماسي ليسأل: هل يثبت اللبنانيون هذه المقولة مرّة أخرى بإسقاط "ثورة 2019" كما أسقطوا "ثورة 2005"؟

 

وفي عبارة أخرى: إنّ تلكؤ أركان "ثورة 2005" أضاع فرصة استثمار الأرباح، ودفَع المجتمع الدولي الداعم لهم إلى الخيبة والتراجع. وهو ما أدى تدريجاً إلى هزيمة 14 آذار وفقدان صدقية هذا الفريق في نظر المرجعيات الدولية.

 

وفي السنوات الأخيرة، باتت الطبقة السياسية كلها في لبنان محلّ تشكيك، و"ميؤوساً منها". وهو ما استدعى مطالبة القوى الدولية بتغييرها ما دامت ترفض تغيير سلوكها. وثمّة رغبة دولية واضحة في ضَخّ دم جديد في النظام اللبناني والحياة السياسية. ومن هذه الزاوية، يُفهَم الدعم السياسي الذي تتلقّاه الانتفاضة.

 

إذا كان نموذج ثورة 2005 هو الذي يتكرّر اليوم، فهذا يعني أنّ انتفاضة 17 تشرين الأول سائرة إلى الهزيمة أيضاً، ما سيقود المجتمع الدولي الداعم لها إلى خيبة مماثلة. ولن تكون مقاربة دونالد ترامب للمشهد اللبناني اليوم مختلفة عن مقاربة بوش آنذاك، علماً أنّ الدعم المطلوب صار خياراً حيوياً بل مصيرياً للبنان، بعدما حوَّله النهب المُمنهج صحراء قاحلة.

 

الصورة النمطية للبنانيين هي أنهم مجتمع يتمتع أفراده بالمهارة والجدارة، ولكنهم فاشلون كجماعة، لذلك هم لا يبنون وطناً. بل إنهم أشبه بـ"الولد المدلوع" الذي يَنساق وراء زعيم الطائفة، ثم يعود ليشكو الفساد ويبكي ويطالب المجتمع الدولي بتسديد الثمن… ليواصل الدلع!

بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، ظهرت علامات أخرى، متفائلة. ولكن، سرعان ما عاد الكسل. فما تحقّق خلال أسابيع، أو أشهر قليلة هائل. لقد اهتزّ كيان الطبقة الفاسدة من ركائزه، وحدث "نصف تغيير" ولو في الشكل. وكان ممكناً أن يكون التغيير أقوى لو أصَرّت عليه الانتفاضة بحزم أكبر وبالتنظيم المناسب.

 

لقد عملت الانتفاضة بقوة ودينامية استثنائية على مدى أسابيع. ولكنها تباطأت. وكان عليها إنتاج فريق عمل وخطة مبرمجة ومضبوطة بالمُهَل. وفي رأي المتابعين أنّ مهلة الـ100 يوم الممنوحة للحكومة يجب أن تُقطَع بعدما أكد الرئيس حسّان دياب بنفسه أنها عاجزة.

 

وحتى المشاورات الجارية للتعيينات تتمّ على أساس المحاصصة الطائفية الذي كان قائماً دائماً. ومنها تلك المتعلقة باختيار نواب حاكم المصرف المركزي: فالمسيحي يجب أن يقدّم الطاعة عند "التيار الوطني الحرّ"، والشيعي عند "حزب الله" وحركة "أمل"، والسنّي يجب أن يحظى بعدم ممانعة "التيار الوطني الحرّ" والثنائي الشيعي.

 

وتالياً، تُثبت الحكومة أنّ "حزب الله" يمتلك جزءاً وافراً من قرارها. ولذلك، توحي الرسائل الآتية من المجتمع الدولي بأن لا مجال لتحصيل أي دعمٍ في ظل هذا الواقع. والمطلوب حكومة حياديين فعلاً.

 

ويرى بعض المعنيين بالانتفاضة أنها كانت تملك أوراقاً عدّة ناجعة، تخلّت عنها، وأبرزها قطعُ الطرق الذي لا يمكن إهماله، بصفته أداةً اضطرارية في أي ثورة في العالم. فأركان السلطة يوجعهم إقفال الطرق. وعندما خرجت الانتفاضة من الطرق، تحسُّساً منها بالمسؤولية أمام الناس، استثمر أركان السلطة مبادرتها واستعادوا مبادرتهم.

 

وفي تقدير هؤلاء المعنيين أنّ هناك خطوتين أساسيتين يمكن أن تعيدا الانتفاضة بشكل أقوى، هما: الانتشار المكثّف مجدداً في الشوارع والساحات، كما في الأسابيع الأولى، وتشكيل قيادة للثورة تقرُّ برنامج عمل.

 

هل تستعد الانتفاضة لخطوات من هذا النوع؟

العالمون يجزمون أنّ الدوافع التي حرَّكت الناس في الأيام الأولى ما زالت كفيلة بإطلاق الموجة الجديدة. ويراهن هؤلاء على أنّ الوجع الآتي، ومشاعر الإحباط التي ربما تسود في الأيام المقبلة، نتيجة عجز الحكومة عن أي معالجة مجدية، ستوفِّر الوقود لانطلاقة أكثر عنفاً وتنظيماً ودقة في تحديد الأهداف.

 

فالفرصة متاحة أمام الانتفاضة لتربح. ولكن، المهم ألّا تُكرَّر مقولة "نخسر الماتش الربحان". يكفي أن تقرِّر أنها ستربح… فتربح!