عبارة واحدة أطلقها وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو أمام الكونغرس كانت كافية للاعلان عن التفاهم مع حركة «طالبان» الأفغانية، قال: «نحن فخورون بمكاسبنا، لكنّ جنرالاتنا قرروا أنّ هذه الحرب اذا استمرت قد لا تربحنا من دون موارد إضافية هائلة». واشار الى أنّ جميع الاطراف تعبوا من القتال.
 

وقبل ذلك كانت الإدارة الأميركية تحضّر الاجواء عبر وسائل الإعلام وتتحدث عن ضرورة وقف الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية، والتي أدت الى سقوط 3200 قتيل من جنود التحالف الدولي واصابة 20 ألفاً آخرين الى جانب مقتل 32 ألف أفغاني مدني. كذلك اعلن المفتش العام في وزارة الدفاع الاميركية انّ كلفة هذه الحرب منذ 2001 هي الاعلى في تاريخ بلاده، حيث بلغت حتى نهاية ايلول الماضي 776 مليار دولار مقارنة مع 771 مليار دولار دفعتها واشنطن في إدارة حرب العراق منذ 2003.

 

ولا شك انّ هذا الاتفاق، الذي وقّعه المبعوث الاميركي الخاص الى افغانستان السفير الاسبق زلماي خليل زاد والمسؤول السياسي لحركة «طالبان» عبد الغني باردار، يمنح الرئيس الاميركي دونالد ترامب الساعي لولاية رئاسية ثانية ورقة قوية في حملته الانتخابية على اساس الوفاء بوعده إنهاء تورّط بلاده في «حروب لا نهاية لها»، اضافة الى انه لم يشنّ حرباً جديدة وعلى اساس انه حقق أهدافه ومصالح بلاده باستعادة الدور القوي على المستوى العالمي من دون إهراق نقطة دم واحدة.

 

لكن ظهور تحدٍ جديد داخلي يتمثّل بانتشار وباء كورونا داخل الولايات المتحدة الاميركية، حجبَ على ترامب، ولو جزئيّاً، التسويق لإنجازه في أفغانستان.

 

ترامب الذي أضحى شديد الارتياب من مساعديه، والحلقة المحيطة به بسبب فضيحة «أوكرانيا» التي أدّت الى طرح ملف عزله أمام الكونغرس، يواجِه ايضاً استعدادات مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون والذي أقاله لنشر كتابه المتضمن اسراراً ستحرجه وهو الذي سعى لمنع نشرها.

 

ورغم انّ مساعديه اكدوا له أن ما يحصل يحمل فوائد كبيرة، خصوصاً لجهة انكشاف الذين يجب طردهم من البيت الابيض، إلّا أنّ ترامب دخل في معركة جديدة عنوانها «عدم الثقة» مع مسؤولي الاستخبارات.

 

صحيح انّ كل الارقام تؤشّر حتى الآن الى أنّ حظوظ التجديد لترامب مرتفعة، الّا انّ هنالك خشية من استغلال خصومه البعيدين والقريبين الآثار المدمّرة لانتشار فيروس «كورونا»، خصوصاً على الاقتصاد، وهي الورقة الاقوى التي يلوّح بها دائماً.

 

ولا مبالغة في القول إنّ الوباء الجديد أبطأ كثيراً من حركة دوران الاقتصاد العالمي. فالبورصات تتراجع بسرعة، وزبائن الاقتصاد الصيني لا يحصلون على بضائعهم بسبب إغلاق المصانع، وعلى سبيل المثال تراجعت مبيعات السيارات في الصين بنسبة 83% في شباط.

 

وعلى المستوى الاميركي جعلت كورونا شركات النفط الاميركية، وهي احد ابرز القطاعات الداعمة لعودة ترامب، تسجّل أسوأ النتائج منذ 80 عاماً. وهو ما يصيب ايضاً استخراج النفط الصخري. ووفق الخبراء فإنّ الآثار السلبية ستبلغ ذروتها في الصيف المقبل، اي قبل أشهر معدودة من فتح صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الاميركية.

 

ووفق وكالة «بلومبرغ»، فإنّ الخسائر التي طاولت ثروات أغنى 500 شخص في العالم بينهم الكثير من الاميركيين بلغت 444 مليار دولار، وربما هذا ما دفع بترامب الى التقليل من خطر «كورونا» مدّعياً انّ الاعلام يثير الذعر من اجل الإضرار بفرَص إعادة انتخابه.


 
 

لذلك، ألغت وزارة الدفاع الاميركية مناورات عسكرية مشتركة كانت مقررة مع كوريا الجنوبية، وجَمّدت حركة جنودها في ايطاليا، وأمرت كل السفن الحربية التي زارت بلدان منطقة المحيط الهادىء والخليج العربي بالبقاء في البحر لمدة 14 يوماً.

 

كل ما سبق يؤدي الى استنتاج واحد وواضح، وهو انّ ترامب سيغرق أكثر فأكثر في مشكلاته الداخلية، الى درجة انه لن يستطيع الاستفادة انتخابياً كما توقع من اتفاقه على إنهاء الحرب في افغانستان.

 

وهو ما يعني أيضاً أنه مضطر لإعطاء هامش أوسع لديبلوماسيي وزارة الخارجية حيال ملف ايران، بالتأكيد تحت إشراف مايك بومبيو المباشر.

وفي شهادته امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب في 28 شباط الماضي، قال بومبيو انّ واشنطن ستحافظ على سياسة الضغوط على ايران. وأضاف أنّ بعض الجنود الاميركيين أصيبوا خلال الانتقام الايراني الصاروخي في قاعدة الاسد الجوية في العراق. لكنه استطرد قائلاً في شهادته إنّ هذا الأمر يثبت أنّ ايران لا تريد تصعيد المواجهة العسكرية.

 

كلام بومبيو يوحي بأنّ ادارة الملف مع ايران ستبقى في اطار استمرار الضغوط عليها وعلى حلفائها، وانّ مخاطر احتمالات الحرب في أدنى مستوياتها، وهي رسالة تطمين للداخل الاميركي.


 
 

وفي استنتاج أوضح فإنّ احتمالات التفاهم مع ايران متروكة الى ما بعد التجديد لترامب. صحيح انّ خريطة سياسية جديدة للشرق الاوسط بدأ العمل على تركيزها انطلاقاً من افغانستان، إلّا انّ منطقة «الهلال الشيعي» ما تزال في حاجة الى بعض السخونة لتظهير صورتها تماماً كما يحصل في شمال سوريا مع تقليم أظافر تركيا وضرب طموح أردوغان لوجود عسكري مباشر لها تمهيداً لتعديل الحدود في مرحلة لاحقة، وهو ما يعني إبقاء الشمال السوري تحت ظل النفوذ الروسي والحرص على عدم فتح المجال لأيّ تعديل في الحدود البرية. وكان لافتاً سماح روسيا بإنزال خسائر بالطرفين التركي و«حزب الله».

 

وهذه الحماوة تشمل العراق وأيضاً لبنان. صحيح انّ الإستقرار الأمني على الساحة اللبنانية مسألة مُسَلّم بها، إلّا انّ الحماوة المقصود بها هنا هي حماوة الانهيار الاقتصادي والمالي والعقوبات التي ستستمر لتعديل الاوزان السياسية، وتحت وطأة الشارع الذي سيعاود تحرّكه بقوة في الربيع.

 

من هنا جاء الموقف الاميركي مباشراً ولافتاً من خلال البيان المكتوب الذي قرأته السفيرة اليزابيت ريتشارد في زيارتها الوداعية لقصر بعبدا. ولا شك في انّ «عبارات» واشنطن كانت واضحة في البيان، خلافاً لأسلوب ريتشاد الناعم والديبلوماسي الذي اشتهرت به طوال خدمتها في لبنان.

 

ولا شك في انّ البيان شكّل خرقاً فاضحاً لأصول التعاطي الديبلوماسي بين البلدان وتدخّلاً مبالغاً فيه في الشؤون الداخلية، ورغم ذلك لم يصدر موقف رسمي واحد مُندّد بما حصل. وهذا ما يعكس الوضع الرسمي الضعيف لأركان السلطة.

 

وكان لافتاً ومقصوداً اختيار المكان، وهو قصر بعبدا، والمناسبة هي الزيارة الوداعية لسفيرة تمّ تعيينها إبّان وجود الرئيس السابق باراك اوباما، وتم التجديد لها ايام ترامب في ظل التخبّط الداخلي، وقبل وصول السفيرة الجديدة دوروني شيا التي اختارها البيت الابيض من فريق الصقور، ويتوقع ان تترجم تعليمات رؤسائها بأسلوب متشدد تماماً كما ديفيد شينكر.

 

كذلك، فإنّ هذا البيان جاء بعد أسبوعين فقط على تولّي حكومة حسان دياب مسؤولياتها الرسمية، وفي ظل حصول الزيارة الاولى لوفد صندوق النقد الدولي.

 

من جهّته، اعتبر مصدر في السفارة الاميركية في عوكر انّ السفيرة حاولت تَلمّس الوضع المالي والخطوات التالية الضرورية للبنان، وان تشيد بمرونة الشعب اللبناني وتصميمه، وفي الوقت نفسه ظلت واقعية جداً في شأن التحديات الماثلة أمام اللبنانيين.

 

ولا شك أنّ العبارة الأخيرة تبقى الأهم، ولو جاءت بصياغة ديبلوماسية. فالواضح انّ هنالك في واشنطن من يقول انّ السلوك الاميركي ذهب واصبح من الماضي، وانّ المرحلة هي لمراقبة الحكومة وتجاوبها مع إجراءات صندوق النقد الدولي.

 

لكنّ واشنطن، التي لم ترحّب بالحكومة بعد، تريد دفعها في هذا الاتجاه، مع الحذر من حصول ضغط يؤدي الى فرطها، لأنّ البديل لا يبدو متوافراً وهو ما قد يفتح الباب أمام حلول الفوضى. ما يعني السير بين حَدّين، وهو دفع لبنان الى السير في طريق جديد تحت وطأة تفاقم حال الانهيار المالي والاقتصادي الحاصل، ولكن مع محاذرة سلوك طريق تَفكّك الدولة اللبنانية.

 

وفي انتظار موعد المفاوضات الاميركية - الايرانية ستستمر سياسة العقوبات، والتي ستساهم في آخر المطاف في تغيير جانب من المشهد اللبناني.