فيروس كورونا، والأزمة الاقتصادية والمالية؛ خطران مصيريان يعصفان بلبنان في هذه الايام، من دون ان يجد لهما منفذًا للإفلات منهما بأقل الخسائر الممكنة. والى جانبهما واقع سياسي أشبه بلوح زجاجي مفسّخ، إمكانية «لحمه» مستحيلة، بل هو مفتوح على اشتباك وتنافر وسجالات وافتراءات وتجريح وقدح وذم، ومزيد من الانقسام والافتراق في اي لحظة، وتحت اي عنوان، وعند أتفه سبب!
 

هل هذا ما يتهدّد اللبنانيين فقط، أم أنّ المياه تجري من تحت ارجلهم من دون ان يشعروا، وانّ أمرًا ما يُحاك لهم، يوازي، أو ربما اخطر من الكورونا والأزمة الاقتصادية والمالية، يجري العمل على بلورته في بعض الغرف الخارجية المغلقة؟

 

سؤال فرضته بعض الإشارات الخارجية التي تلاحقت على فترات متقطعة منذ انطلاق حراك 17 تشرين الاول 2019. في البداية تمّ الباس هذه الإشارات ثوب الحرص على لبنان واستقراره السياسي والاقتصادي، وعبّرت عن ذلك معظم الدول الشقيقة والصديقة للبنان، ولا تزال.

 

الاّ انّ هذه الإشارات تدرّجت في الاسابيع الأخيرة إلى ما هو أعمق، بحيث تمّ تطعيمها بـ«جملة» أقلّ ما فيها أنّها مثيرة للريبة، إن بمضمونها الذي يقول: «انّ النظام في لبنان فشل ولم يعد يصلح»، أو بالدعوة المباشرة الى اللبنانيين لكي يقلبوا الصفحة؟

 

خطورة هذا الكلام، ليست فقط، في صراحته غير المعهودة، والتي لا تنسجم ابدًا مع إبداء الحرص على استقرار لبنان السياسي والاقتصادي، بل في المصدر الذي انطلق منه هذا الكلام؛ بداية من الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش، ومن ثم الإيحاءات المتتالية لوزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو، وصولًا الى الموقف «المكتوب» الذي تلته السفيرة الاميركية قبل مغادرتها بيروت نهائيًا منذ يومين، وجاء فيه ما حرفيّته: «.. هذا هو الوقت المناسب لجميع المواطنين اللبنانيين لمعالجة قضايا الحكم والاقتصاد بشكل مباشر. يجب اتخاذ قرارات صعبة، وسوف يتحمّل الجميع بعض العبء. الجميع يدرك أنّ النظام، في العقود القليلة الماضية، لم يعد يعمل وبالتالي هذه فرصة تاريخية للشعب اللبناني لقلب الصفحة».

 

الداخل السياسي عموماً، لا يملك أي معطيات حول خلفيات هذا الكلام، وموجبات إطلاقه والتصويب على النظام في هذا التوقيت بالذات، بل تعتريه الخشية، وربما اكثر، من ان تكون القوى الخارجية النافذة باتت مقتنعة بأنّ النظام اللبناني في صيغته الراهنة المتولدة من «اتفاق الطائف»، لم يعد ممكناً ان يستمر، وان ثمة حاجة الى تأسيس نظام جديد.

 

وثمة تساؤلات كثيرة تُطرح: هل في الإمكان تغيير النظام في لبنان، خصوصا وانّ الصيغة القائمة كلّفته عشرات الألوف من الضحايا والأرواح من كل الفئات؟ وايّ نظام جديد يُراد فرضه؟ وهل انّ «الطائف» لم يعد ملائمًا للواقع اللبناني؟ وكيف سيتمّ الوصول الى هذا النظام الجديد؟ وبأي ادوات؟ وعلى حساب أي من المكونات الداخلية سيأتي هذا النظام؟ وقبل كل ذلك هل انّ لبنان الذي يقف اليوم بين خطرين مصيريين، الكورونا والأزمة الاقتصادية والمالية، يتحمّل ان يُلقى به امام خطر جديد عنوانه صوغ نظام جديد؟ وهل يستطيع هذا اللبنان اصلاً، وبوضعه المزري سياسيًا وصحيًا واقتصاديًا وماليًا، ان يدفع الكلفة التي قد تترتب عليه جرّاء هذا الأمر؟

 

لا يفصل مرجع سياسي كبير الموقف الاممي من التصويب على النظام عن الموقف الاميركي، ويقول، انّه «بصرف النظر عمّا اذا كان القصد هو الإطاحة بالنظام الحالي لمصلحة نظام بديل او خلاف ذلك، فإنّ من الغباء الاعتقاد انّ في الإمكان تغيير النظام القائم في لبنان، اذ ثمة استحالة لبنانية في إمكان بلوغ هذا الأمر، فكل الاطراف السياسية، وان كان بعضها مع التغيير الجذري في اساس النظام، عاجزة عن تحقيق ذلك. ثم انّ الخارج برغم كل ما ُيُقال، يدرك تمامًا انّ مجرّد إدخال لبنان في دوامة تأسيس نظام جديد، معناه إلقاء هذا البلد في حلبة نزاع خطير ومديد، بالتأكيد لن تبقى ارتداداته محصورة ضمن الجغرافيا اللبنانية، بل ستتوسّع الى المحيط، فضلاً عن أنّ الصيغة اللبنانية القائمة، يُعمل على تعميمها كوصفة خلاص على كثير من الدول العربية خصوصًا تلك التي تعاني من أزمات ومشكلات».

 

الخارج، وبناءً على ما نسمعه من الديبلوماسيين والموفدين، يقول المرجع السياسي، «لا يضع في روزنامته تغيير النظام في لبنان، بل على العكس، يعبّر عن حرصه على حماية نظام «الطائف»، وحتى ولو كان هدفه الحقيقي قلب النظام، فهو لا يستطيع ذلك، لسبب بسيط هو انّه لا يملك الادوات».

 

ومن هنا، يضيف المرجع، «إنّ القصد من التصويب على النظام في هذا التوقيت، هو صبّ الزيت على نار الأزمة الراهنة، سعيًا الى تحقيق الهدف الذي رسمه بعض الخارج، مع بداية الحراك الشعبي في 17 تشرين، وهو الوصول الى ما يسمّونه «الفوضى الخلاّقة» التي تمكّنهم من انتزاع تنازلات جوهرية من السلطة الحاكمة، ليس على الصعيد الاقتصادي والاصلاحات، بل على الصعيد السياسي». فمعركة الخارج، والكلام للمرجع نفسه، ليست معركة إصلاحات وما الى ذلك من مرادفات لها، بل هي معركة خنق «حزب الله»، والهدف الاساس لها تحدّده في المواقف المتتالية له منذ بدء الحراك الشعبي، الذي بات يعتبره هذا الخارج، المسمار الذي ضُرب في نعش «حزب الله»، وأدّى الى توسيع البيئة الشعبية المعارضة، وللحكم الذي يواليه.


 
 

وتبعًا لذلك، يكشف المرجع، انّه يملك معطيات حول تحضيرات لتحرّكات في الشارع خلال الايام المقبلة، سياسية وغير سياسية، وعلى نحو اكثر تصعيدًا مما شهدته الحراكات المتتالية منذ 17 تشرين.

 

لم يكشف المرجع عن حقيقة المعطيات التي يملكها، لكن مصادر موثوقة تحدثت عن حال من القلق الشديد تعتري بعض المستويات السياسية وغير السياسية، ليس جراء تقارير عماّ تسمّى «حراكات نوعية» ستفاجئ السلطة الحاكمة، بل جراء إشارات أمنية عادت بها شخصيات سياسية لبنانية قبل ايام قليلة من دول اوروبية ومن بينها فرنسا.

 

وبحسب المصادر نفسها، انّ تلك الشخصيات ومن بينها «زعيم سياسي بارز»، تلقّت نصائح مشدّدة بتوخي اقصى درجات الحذر في هذه المرحلة، واتخاذ اجراءات وقائية لتعزيز حمايته وأمنه الشخصي». وهو امر يدفع الى طرح كثير من علامات الاستفهام حول موجبات هذه النصائح، وما اذا كانت مخابرات تلك الدول تملك معطيات حول استهدافات امنية معينة، وحول ما اذا كان الوضع الداخلي اللبناني سينحى في اتجاه تصعيدي يغلب عليه الطابع الأمني؟

 

وعلى الخط الموازي، وبحسب المصادر الموثوقة، ثمة وجه آخر للتعصيد السياسي، عنوانه «معركة تقصير ولاية الرئيس ميشال عون»، حيث بدأ أحد الاحزاب يرسم خريطته التنفيذية، خصوصاً وانّ ثمة سابقة تمثلت بإسقاط الرئيس بشارة الخوري وحمله على الاستقالة. وحصل في الايام الاخيرة تشاور مغلق في هذه المسألة بين قوى سياسية «معادية سياسياً» لعون وتياره السياسي، بهدف تحقيق الحشد السياسي لإطلاق هذه المعركة سريعاً.

 

لم يصل هذا الشاور الى حسم الموقف بعد، خصوصًا وانّه لم يستطع الإجابة عن مجموعة اسئلة: ما هو موقف بكركي من محاولة اسقاط رئيس الجمهورية او محاولة تقصير ولايته؟ وهل تقبل بذلك؟ هل تستطيع اطراف هذه المعركة ان تتجاوز «حزب الله» الذي يحمي العهد ويعتبره غطاءه السياسي والمسيحي؟ من هو «الرئيس البديل» الذي يمكن ان يشكّل محفِّزًا للاطراف لكي تدخل في المعركة وتقلب الطاولة الرئاسية من اجله؟

 

وقبل كل ذلك، ماذا عن جمهور عون، وكيف سيتم تجاوزه؟ ثم كيف ستُقنِع رئيس الجمهورية بأن يوافق على تقصير ولايته، وثمة تجربة سابقة معه، لم يخرج فيها من القصر الجمهوري إلّا تحت قصف الطيران؟