يعيش وزراء حكومة مواجهة التحديات، أو بعضهم على الأقل، في ضياع وتردّد، بسبب ما يشبه الانفصام في الشخصية. من جهة يتمتّع هؤلاء بقدرات علمية وكفاءات شخصية تؤهلهم لاتخاذ قرارات تقود الى الانقاذ المالي والاقتصادي، ومن جهة ثانية، يدرك هؤلاء انهم مضطرون الى الامتثال لأوامر وتوجيهات قوى سياسية تتحكّم بالقرار.
 

ما يجري حتى الآن في مهمّة الانقاذ المالي والاقتصادي التي جاءت من أجلها هذه الحكومة، ولا مهمّة أخرى تعلو فوقها، يبدو غامضاً الى حدود التناقض. من جهة، تتصرّف الحكومة باحترافٍ يعكس جدّية وسِعة اطلاع وزراء فيها، ومن جهة ثانية تقف عاجزة وشبيهة بحكومات سابقة، وتعكس استمرار سيطرة القوى السياسية التقليدية عليها.

 

في الأساس، إتُّفِق على أنّ نقطة الضعف الرئيسية في هذه الحكومة تكمن في كونها جاءت بقرار سياسي من لون واحد. وبصرف النظر عن الاعتراضات والمخاوف التي رافقت الولادة، كانت هناك مواقف في الداخل والخارج تؤيّد فكرة إعطاء الحكومة فرصة للحكم عليها، والأصَح الحكم على استقلاليتها وقدرتها على اتخاذ القرارات في معزل عن الضغوطات السياسية التي قد يمارسها من جاء بها.

 

اليوم، لا تبدو المؤشرات مُطمئنة. فالمطلوب من هذه الحكومة أمر واحد: معالجة الأزمة المالية والاقتصادية، وكل ما عدا ذلك لزوم ما لا يلزم. وقد بدأت تتجمّع المؤشرات السلبية التي يمكن تسليط الضوء على مؤشرين أساسين منها:

 

أولاً - في معالجة موضوع اليوروبوند، تستهلك الحكومة الوقت بطريقة مريبة، بحيث أننا قبل اسبوع واحد من استحقاق إصدار 9 آذار، تتصرّف الحكومة وكأنها عاجزة عن اتخاذ القرار.

 

ثانياً - في خطة الانقاذ، تمّ التعاطي مع ملف التعاون مع صندوق النقد بطريقة غير مريحة. والمشكلة هنا لا تتعلّق بتقييم المواقف حيال هذا التعاون، وهل هو ضروري أم لا، بل بالانطباع العام الذي تكوّن جرّاء ما حصل. إذ كانت الحكومة متحمّسة، بعد الضوء الاخضر الذي حصلت عليه من «حزب الله»، لفتح الاتصال المباشر مع الصندوق لطلب مشورة تقنية، ومن ثم أصبحت مشلولة بعد قرار الحزب تجميد التعاون عند مستوى المشورة.

 

اللافت هنا انه كان في مقدور الحزب تحاشي التصريح العلني، وطلب تجميد التعاون مع صندوق النقد عبر قنوات الاتصال مع الحكومة. لكنه اختار اعلان موقفه عبر الاعلام، في رسالة سياسية الى من يعنيهم الأمر مفادها انّ الحزب يملك قرار الحكومة، في أهم قضية مفصلية، بل القضية الوحيدة المطلوب من الحكومة الاهتمام بها.

 

هل من تفسير منطقي لقرار الحزب منع التعاون مع صندوق النقد، رغم مخاطر الافلاس والفقر المدقع الذي قد يصيب البلد لسنوات طويلة الى الامام؟ في التفسيرات المُقدّمة، يمكن ايراد 3 سيناريوهات:

 

سيناريو أول: يهدف تعمُّد الحزب إعلان موقفه الرافض للتعاون مع صندوق النقد، الى توجيه رسالة الى جمهوره، مفادها انه يشكّل خط الدفاع الاول عن لقمة عيشهم لجهة رفض الوصفات الموجعة التي قد يحملها صندوق النقد، ومنها رفع الدعم عن كل السلع، ورفع الدعم عن الليرة لتحرير سعر صرفها، وفرض ضرائب لضمان تحسين ايرادات الخزينة، منها ضرائب على المحروقات، رفع الضرائب على الاستهلاك (TVA).

 

من جهة ثانية، أراد الحزب أن يؤكّد لجمهوره انه لم يتراجع تحت الضغط الاقتصادي الذي يقول ان الولايات المتحدة تقف وراء الجزء الاكبر منه، عن مواقفه المبدئية السابقة التي تستند الى فكرة انّ المنظمات الدولية في الامم المتحدة، ومن ضمنها صندوق النقد، تخضع للقرارات الأميركية. وبالتالي، من يوافق على وصاية هذه المنظمات، إنما يوافق على وصاية أميركية مُقنّعة على بلاده.

سيناريو ثان: يدرك الحزب انّ البند الاول في أي خطة إنقاذ سيتمّ الاتفاق عليها مع صندوق النقد لتمويلها، تقضي بوضع حد للاقتصاد الرديف، اي إغلاق معابر التهريب غير الشرعي، ومنع التهريب عبر المعابر الشرعية. وهناك من يؤكّد انّ الحزب يعاني ضائقة مالية، وانه يعتمد على هذه المعابر في تأمين جزء من تمويله. وبالتالي، لن يوافق على أي اجراء يمكن أن يخنقه مالياً. بالاضافة الى توجّس الحزب من زيادة التدخلات الخارجية في مراقبة عمليات تبييض الاموال، والتي يعتبر انّ الاميركيين يحاولون استخدامها لاستهداف وسائل تمويله المتعددة.

 

سيناريو ثالث: يرتبط موقف الحزب بقرار إقليمي على مستوى «محور المقاومة»، ويشكّل رسالة الى الاميركيين والمجتمع الدولي مفادها انكم لا تستطيعون أن تخنقوا ايران اقتصادياً ومالياً، وأن تحيّدوا لبنان على اساس زيادة عزلة الجمهورية الاسلامية، وإظهارها عاجزة عن «تجنيد» الحكومة اللبنانية لتكون الى جانبها في المواجهة مع «الشيطان الاكبر».

 

في السيناريو الاول، تبدو الامور أقل تعقيداً، على اعتبار انها ترتبط بموقف دعائي يتعلق بممارسة السياسة على الطريقة اللبنانية، وهي تسمح بالاعتقاد انّ رفض الحزب التعاون مع صندوق النقد لطلب مساعدات مالية، وخطة إنقاذ شاملة، قد يبقى مجرد موقف مبدئي، وقد يسمح الحزب بتجاوزه على طريقة استمرار معارضته العلنية، في حين تعمد الحكومة الى مواصلة خطة التعاون وطلب الدعم في المستقبل. وهكذا يكون الحزب سجّل موقفاً «شعبياً»، ولم يعرقل خطة الانقاذ لتحاشي الانهيار التام، والذي لا يمكن تقدير عواقبه منذ الآن في المشهد العام السياسي والأمني والاجتماعي والحياتي في البلد.

 

في السيناريو الثاني والثالث، تبدو الامور معقّدة أكثر، وهي تعني انّ الحزب لا يرفض في العلن، لكي يوافق في السِر على التعاون مع صندوق النقد. وبالتالي، علينا انتظار ما ستُسفر عنه «الحرب» بين الولايات المتحدة ومحور المقاومة، لنعرف الوجهة التي ستسلكها التطورات. لكن ما هو مؤكّد، في هذا الوضع، أنّ مأساة اللبنانيين ستكون كبيرة، وهي بالتأكيد أقسى وأعمق وأشمل من تداعيات رفع سعر صفيحة البنزين، وتحرير سعر الصرف، وزيادة الـTVA الى 15 أو 16%، مقابل خطة إنقاذ تسمح بوقف الانحدار، وبدء مرحلة الانعاش الطويل والموجع، لكنه الطريق الوحيد الى التعافي.