ليست قليلة الخسائر التي مُني بها «حزب الله» في السنوات الأخيرة، إلى درجة انّ كل هندساته السياسية فشلت فشلاً ذريعاً.
 

بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، وجد «حزب الله» نفسه وحيداً ويتيماً ومتصدراً الإدارة السياسية لمحور الممانعة في لبنان، والتي كانت من مسؤولية النظام السوري. وبالتالي، وجد نفسه أمام وضع جديد عليه أن يحافظ فيه على سلاحه تحت راية المقاومة من أجل إبقاء لبنان ضمن محور الممانعة، فكانت الهندسة الأولى المعروفة بـ«التحالف الرباعي» التي حَيّدت الحزب وسمحت له بالتقاط أنفاسه، وأتاحت للفريق الآخر العبور إلى مرحلة جديدة يُمسك فيها بالأكثرية. ولكن سرعان ما بدأت هذه الهندسة بالتهاوي بفِعل تناقض أجندة كل من الطرفين بين ساع إلى إعادة الوضع إلى ما قبل الخروج السوري، وبين ساع إلى تدعيم المرحلة الجديدة.

 

وعندما وجد «حزب الله» انّ «التحالف الرباعي» لم يعد يشكّل له الضمان المطلوب، بدأ يعدّ العدة لهندسة جديدة توّجت في 6 شباط 2006 من خلال وثيقة التفاهم بينه وبين «التيار الوطني الحر»، والتي انتقل معها من ضمان «الفيتو» المذهبي إلى السعي لامتلاك الأكثرية النيابية التي تتيح له الإمساك بالسلطة، وقد اعتقد انّ انتخابات 2009 تشكل الفرصة المواتية لإعادة القديم إلى قدمه، فأطلق أمينه العام تحدي الواثق من نفسه «فليحكم من يربح الانتخابات». ومع عدم تمكّنه من الفوز بالأكثرية، قرر إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في الوقت المناسب عن طريق «الثلث المعطّل» الذي انتزعه من خلال تحالفه مع «التيار الوطني الحر».

 

فتحالف «الحزب» مع التيار وَفّر له في المرحلة الأولى الغطاء المسيحي والثلث المعطِّل، ومن ثم السعي إلى انتزاع الأكثرية، وعلى رغم اختراقاته داخل البيئة السنية إلّا انها بقيت محدودة في إطار بعض الشخصيات الممثلة لبيئتها داخل مناطقها من دون ان يخترق المزاج السنّي العام، فضلاً عن افتقاد هذه الشخصيات للغطاء السعودي وتجنّبها قدر الإمكان الظهور بمظهر رأس الحربة لسياسة الحزب بما يتناقض مع المملكة والبيئة السنية. وبالتالي، إنّ تحالفه الاستراتيجي الأساسي الذي في إمكانه التعويل عليه هو تحالفه مع «التيار الوطني الحر».

 

وقد ظنّ انه مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية تكون هندسته للتحالفات والحياة السياسية في لبنان قد نجحت في تمكينه من الإمساك بمفاصل القرار السياسي، ولكن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها انّ كل هذه الهندسة معرّضة للسقوط بفعل الانهيار المالي والانتفاضة الشعبية الرفضية لكل الواقع السياسي المُمتد منذ 13 تشرين 1990 والتعديلات التي أدخلت عليه على أثر انتفاضة 14 آذار 2005، فضلاً عن أنّ حليفه المسيحي الاستراتيجي في وضع صعب جداً، ليس فقط بسبب انهيار التسوية الرئاسية وابتعاد 3 مكونات أساسية عنه: «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي»، بل لأنّ الأزمة المعيشية انفجرت في وجهه، والانهيار غير المسبوق حصل في عهده الذي دخل بنحو أو بآخر في تصريف أعمال ولن يكون له اي تتمة من بعده.

وإذا كانت الهندسة التي تَلت 13 تشرين 1990 هندسة سوريّة، فإنّ الهندسة التي تلت 14 آذار 2005 هي هندسة الحزب بامتياز، وكل هذه الهندسة معرّضة للسقوط ليس لأسباب سياسية مباشرة هذه المرة، بل بسبب الفشل المُتراكم في إدارة الدولة الذي أدّى إلى انفجار اجتماعي وسقوط كل النموذج اللبناني او الميزات التفاضلية للبنان في عهد الحزب تحديداً، والمقصود بدءاً من القطاع المصرفي وصولاً إلى القطاع الاستشفائي وما بينهما القطاع السياحي والتعليمي والمَس مباشرة بطبيعة عَيش الناس في سابقة أولى من نوعها في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، خصوصاً انّ الحزب وقع في فخ تحمُّل مسؤولية الانهيار والفرص الضئيلة لمواجهته.

وبمعزل عن الوضعية الشعبية للحالة العونية إلّا انها سقطت وطنياً ولم يعد في إمكان «حزب الله» التعويل عليها، كما انّ هندسته الوطنية سقطت بدورها أو هي في طريقها إلى السقوط النهائي، وفي موازاتهما فإنّ هندسته للعلاقة مع تيار «المستقبل» تحت عنوان إبعاد الفتنة السنية -الشيعية، التي ترجمت مع حكومة الرئيس تمام سلام واستمرّت مع حكومتي الحريري في عهد عون، سقطت بدورها رسمياً مع رفض شريك الحزب المسيحي إعادة تكليف الحريري رئيساً للحكومة.

وفي موازاة كل ذلك أيضاً، فإنّ هندسته للخروج من لبنان والقتال علناً في دول المنطقة كَبّدته خسائر بشرية فادحة، وتحديداً في سوريا التي أمسكت موسكو بقرارها لا طهران، وبمعزل عن كل التبريرات التي يروّجها بأنه لولا دخوله في تلك الحرب لكانت سوريا تحولت دولة عدوة لمحور الممانعة، إلّا انه في المحصّلة فإنّ القرار السياسي في دمشق اليوم هو في يد موسكو، وخسائر الحزب البشرية كبيرة جداً وما زالت تتوالى، وآخرها قافلة من الضحايا في إدلب.

 

وشاءت الأقدار ان يكون أول دخول لفيروس «كورونا» إلى لبنان من طهران، وأحد أسبابه تَبدية «حزب الله» الاعتبار الإيديولوجي على الاعتبار الإنساني والأمن الصحي، وأوّل متضرّر من هذه الخِفّة هي بيئته التي استقر فيها «كورونا»، وثاني متضرر هو الحكومة التي لم تتمكن من اتخاذ الإجراءات الفورية بسبب السقف الذي وضعه لها الحزب، فيما هذا السلوك أدى إلى مزيد من تعبئة اللبنانيين ضده بسبب تحميله مسؤولية إدخال هذا الفيروس إلى الربوع اللبنانية وتعييشهم القلق الصحي الذي يُضاف إلى قلقهم المعيشي.

 

ولا شك انّ داخل بيئة «حزب الله» هناك من يحمِّله مسؤولية إيصال عون إلى بعبدا والكارثة المالية التي حَلِّت باللبنانيين من جرّاء هذه الخطوة وإهماله المتابعة اليومية، وهناك من يحمِّله مسؤولية القتال في سوريا والخسائر الكبرى التي تكبّدتها طائفته بسبب هذا القتال، وهناك من يحمِّله مسؤولية العقوبات والحصار الدولي والعربي الذي تتعرّض له الطائفة الشيعية بسبب دوره، وهناك من يحمِّله مسؤولية إدخال «كورونا» إلى داخل البيئة الشيعية، وهناك من يحمِّله مسؤولية تغطيته للفساد بسبب تَبديته الاعتبار المتصل بسلاحه، وهناك من يحمِّله مسؤولية عدم إلمامه بالشؤون المالية والاقتصادية والصحية التي أوصلت لبنان إلى الانهيار.

 

فالهندسات السياسية التي صاغَها «حزب الله» وأشرفَ عليها إمّا سقطت وإمّا هي في طريقها إلى السقوط، وقد أظهرت افتقادَه للرؤية التي أفقدت هذه الهندسات مقوّمات الاستمرارية، الأمر الذي يضع الحزب في وضع دقيق وحَرج جداً داخل بيئته أولاً، ويضاعف النقمة عليه داخل بيئته وخارجها ثانياً، هذا من دون التقليل من عامل الانهيار المالي والتعبئة الشعبية، وأن يُفضي، في حال الفشل في لجمه، إلى سقوط كل تركيبة 13 تشرين 1990 ومتمماتها في 14 آذار 2005.