الأزمة تكمن في تركيبة النظام نفسه الذي صار في حال طلاق مع المواطن الجزائري العادي الذي أنهكته سياسات قائمة على تحكّم المؤسسة العسكرية بكلّ شاردة وواردة في البلد.
 

عندما يحاول الرئيس الجزائري الجديد عبدالمجيد تبون عزل المغرب ويفشل في ذلك، فإنّما يعمل عمليا على عزل الجزائر. أكثر من ذلك، إن مجمل تصرفات الرئيس الجزائري الجديد تصبّ في الهرب إلى الخارج، بدل مواجهة الواقع الجزائري. يهرب تبون في اتجاه المغرب بدل التعاطي مع الوضع الداخلي الجزائري بجرأة وشجاعة. ولكن ما العمل عندما يكون الرئيس الجزائري مجرد أداة لدى المؤسسة العسكرية الجزائرية التي تعتقد أنّها استعادت دورها؟

 

من آخر ارتكابات تبون تعيينه لمستشار جديد له مكلف الشؤون الأمنية والعسكرية. اسم هذا المستشار هو اللواء المتقاعد عبدالعزيز مجاهد، عضو “اللجنة الجزائرية للتضامن مع بوليساريو”. إنّه معروف بعدائه الشديد للمغرب. هل العداء للمغرب صفة لابدّ من التمتع بها كي يصبح جنرال متقاعد من مستشاري رئيس الجمهورية في الجزائر؟

 

ثمّة أمور تدعو إلى الضحك أكثر من أيّ شيء آخر. من بين هذه الأمور إصرار النظام الجزائري على لعب دور القوّة الإقليمية في وقت لا يمتلك البلد أيّ قدرة على تلبية المطالب الشعبية المشروعة للجزائريين أنفسهم، وهي مطالب يعبّر عنها حراك مستمر منذ عام. نجح هذا الحراك في منع عبدالعزيز بوتفليقة من ترشيح نفسه لولاية خامسة. اضطر بوتفليقة إلى تقديم استقالته بضغط من الشارع قبل انتهاء ولايته الرابعة. ما يفوتُ النظام الذي اعتقد أنّه استعاد عافيته هو الاعتراف بالواقع. يقول الواقع إن التخلّص من بوتفليقة الذي لم يكن سوى واجهة لعصابة حاكمة لم يكن ممكنا لولا التحرّك الشعبي المطالب بتغيير النظام عن بكرة أبيه.

 

هذا التغيير الكبير المطلوب جزائريا يغيب عن تفكير تبون المضطر للعب الدور المطلوب منه لعبه. إنّه دور الواجهة للمؤسسة العسكرية التي تعتقد أنّها استعادت المبادرة التي افتقدتها عندما أصبح عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية في العام 1999، وأراد تصفية حساباته القديمة معها. المفارقة أن بوتفليقة لم يصلْ إلى موقع الرئيس إلّا بفضل المؤسسة العسكرية. هذا الأمر لم يمنعه من الانتقام من العسكر الذين منعوه من خلافة هواري بومدين في مطلع العام 1979.

 

تبدو أزمة الجزائر أزمة نظام أوّلا. لم يستطع هذا النظام الذي تأسس في عهد بومدين، ابتداء من العام 1965، تطوير نفسه وذلك عن طريق الخروج من حكم الأجهزة الأمنية التي تشرف عليها المؤسسة العسكرية. لم يستطع هذا النظام الخروج من الاعتماد على الدخل الآتي من النفط والغاز، علما أن لدى الجزائر موارد أخرى كثيرة يمكن أن تجعل من اقتصادها اقتصادا متنوّعا.

 

في السنة 2020، يظنّ النظام الجزائري أنّه استعاد المبادرة، وأن كلّ شيء يسير حسب الخطة التي ترسمها المؤسسة العسكرية. هناك، باختصار، عودة إلى أساليب قديمة وبالية في عالم مختلف. آخر ما يهمّ المواطن الجزائري هو الإساءة إلى المغرب، والعودة إلى إثارة قضية الصحراء، وهي قضيّة مفتعلة من ألفها إلى يائها. إن الطفل الجزائري يعرف أن “بوليساريو” ليست سوى أداة جزائرية تستخدم في لعبة ذات طابع ابتزازي للمغرب.

 

لن يقدّم الإتيان بمستشار لرئيس الجمهورية الجزائرية يمتلك مواصفات معيّنة، في مقدّمها العداء للمغرب، في شيء. يكشف مثل هذا التوجّه السياسة العقيمة للجزائر من جهة، وعمق الأزمة الداخلية من جهة أخرى. لعلّ أفضل ما يعبّر عن عمق هذه الأزمة استمرار الحراك الشعبي منذ سنة. حقّق هذا الحراك إنجازا كبيرا بمنعه بوتفليقة من الحصول على ولاية خامسة، علما أنه مُقْعد ولا يستطيع التفوّه ولو بكلمة. يتبيّن كلّ أسبوع ومنذ عام كامل أن الجزائر كلها في انتفاضة موجّهة ضد النظام. يريد المواطنون تغييرا جذريا، وذلك ليس في منطقة القبائل فحسب، بل على الصعيد الجزائري ككلّ.

 

لا مفرّ من الاعتراف بأنّ المؤسسة العسكرية عرفت كيف تجيّر الحراك لمصلحتها بفضل الدور الذي لعبه رئيس الأركان الجنرال أحمد قايد صالح الذي توفّى أخيرا. لكنّ تجيير الحراك في اتجاه معيّن شيء، والتصالح مع الواقع شيء آخر. ما ينقصُ النظام الجزائري هو تلك القدرة على التصالح مع الواقع، بشقّيه الداخلي والخارجي.

 

على الصعيد الداخلي، لا يمكن للنظام تجاوز أزمته في حال تجاهل مطالب الحراك الشعبي وإبعاده. لا يمكن للرئيس تبّون الدخول في حوار جدّي مع الحراك الذي استعاد حيويته في الـ21 من شباط – فبراير الجاري من دون إدراك أنّ هذا الحراك يسعى إلى قيام جزائر جديدة، لا علاقة لها بالنظام الذي وضعت أسسه في العام 1965 بعد ثلاث سنوات من الاستقلال. هناك هتاف للآلاف من الجزائريين شاركوا قبل أسبوع في تظاهرة في مدينة بجاية في وسط الجزائر. يقول الهتاف، استنادا إلى صحيفة “لوموند” الفرنسية التي كانت تغطي التظاهرة، “لم نأت للاحتفال (بذكرى بدء الحراك)، جئنا من أجل أن ترحلوا”. يوجد بكل بساطة نظام عاجز عن فهم طبيعة الأزمة الداخلية. هذا النظام انتهى. إنّه مصرّ على أنّ في استطاعته إعادة تأهيل نفسه من منطلق أن الأزمة كانت في بوتفليقة وأفراد الحلقة الضيّقة المحيطة به الذين يُحاكَمُون حاليا والذين صدرت في حقّهم عقوبات بالسجن. كلّا، إن هذه الأزمة تكمن في تركيبة النظام نفسه الذي صار في حال طلاق مع المواطن الجزائري العادي الذي أنهكته سياسات قائمة على تحكّم المؤسسة العسكرية بكلّ شاردة وواردة في البلد.

 

على الصعيد الخارجي، آن أوان التخلّص من عقد الماضي، في مقدّمها عقدة المغرب. هناك حدود برّية مغلقة بين البلدين منذ العام 1994، كيف ترفض الجزائر البحث في كيفية تحويل هذه الحدود منطقة للتعاون المشترك بين البلدين الجارين، على الرغم من كلّ المبادرات التي قام بها المغرب، بما في ذلك مبادرات من الملك محمّد السادس نفسه. هل تخشى الجزائر أن يذهب المواطن إلى المغرب، ويرى بنفسه الفارق بين بلد طبيعي عرف كيف يطور نفسه، على الرغم من عدم امتلاكه ثروات طبيعية مثل النفط والغاز، وبلد بدّد ثرواته الكبيرة خدمة لأهداف لا علاقة لها برفاه المواطن ومستقبل أولاده؟

 

من حقّ النظام الجزائري السعي إلى البقاء بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الهرب المستمرّ إلى الخارج. ما ليس من حقّه الاستمرار في العيش على وهم القوّة الإقليمية التي ترفض التصالح مع الداخل الجزائري ومع محيطه المباشر. الأكيد أنّ ابتزاز المغرب لن يقدّم ولن يؤخر، وأن “بوليساريو” لا يمكن أن تكون يوما أكثر من أداة في خدمة الأجهزة الجزائرية. متى تتصالح الجزائر مع نفسها، ومع الواقعين الداخلي والإقليمي؟