ما ظَهر في الأيام الأخيرة يثير الهواجس من الدخول في الأسوأ. لقد كانت هناك مراهنة، ولو ضئيلة، على أنّ القوى التي جاءت بحكومة الرئيس حسان دياب، ستترك لها باباً ضيقاً للنجاة من الكارثة، على سبيل الرحمة. ولكن، بدأ يتبيَّن أنّ الحكومة موضوعة في سجن لا نافذة فيه حتى لنقطة ماء...
 

الذين كانوا يتابعون تحوّلات المزاج، داخل حكومة دياب، لم يفاجأوا بالحملة التي أطلقها الرجل ضد الذين يتّهمهم بـ«التفخيت» عليه، ويقصد خصوصاً الرئيس سعد الحريري.

 

طبعاً، ليس مناسباً إعطاء المسألة تفسيراً يتعلق بالزعامة السنّية، كما حاول البعض أن يفعل. فدياب ليس مرشحاً في المدى المنظور لأكثر من لقب «دولة الرئيس»، ولاعتراف دار الفتوى التي استطاع «تطبيع» العلاقة معها. وهذا يكفيه حتى إشعار آخر.

 

ولكن، في العمق، غضَبُ دياب مصدره الأساسي هو اقترابه من الاستحقاق الكبير من دون أي قدرة على المواجهة. وهذا الاستحقاق هو الذي أخذه على عاتقه عندما سمّى حكومته «حكومة مواجهة التحديات».

 

يعرف الرجل أنه أسير «الكادر» الذي رسمته له القوى السياسية التي جاءت به، أي 8 آذار. وظَنّ أنّ النافذين في 14 آذار لن يقسوا عليه من خارج السلطة، لأنهم شركاء في الأخطاء والخطايا المرتكبة. لكنه لم يتوقع أن يكون «كادر» الحلفاء ضيّق عليه إلى هذا الحدّ، وأن يمارس الخصوم هذه الحدّة ضده.

 

لقد تبيّن لدياب أنه مطوَّق، وأنّ الجميع يريد حكومته «كبش محرقة» لإمرار المرحلة الرمادية لا أكثر. وبعدها، يعود أبطال التركيبة إلى «حياتهم الطبيعية» في الحكومة، وعلى حصان أبيض. وعلى الأرجح، إنهم يختلفون مرحلياً لكنهم سيتواطأون مجدداً. فما يجمعهم هو المصالح. لذلك، شَنّ دياب حملة على «المستقبل»، من دون أن يسمّيه. لكنّ خلفيات حملته تشمل أكثر من طرف سياسي.

 

المطّلعون يقولون: لم يكن دياب ليبقّ البحصة بهذا الشكل المفاجئ، في بيان مجلس الوزراء، لولا أنه اضطر إلى تبرير ما سيأتي. فالحملة جاءت في لحظة حَرجة يتفاوض فيها مع صندوق النقد الدولي ليعرف كيف يمكنه إطفاء كرة النار التي تقاذفها الجميع ليضعوها أخيراً بين يديه.

 

فهو يعرف أنّ الحريري وسائر 14 آذار يريدون الاستفادة من الضغط الدولي لإضعاف نفوذ إيران في لبنان. وموقفهم هذا بديهي. ولكن وزراءه «التكنوقراط»، حتى أولئك المحسوبين على قوى 8 آذار، لا يستطيعون أن يفهموا ما تريده هذه القوى تحديداً، سواء بالنسبة إلى هوامش المفاوضة مع الصندوق أو الشركات الاستشارية والقانونية.

 

لا يستطيعون أن يفهموا كيف تتمّ الاستعانة بالصندوق للمشورة التقنية ثم تُرفَض نصائحُه ويُخَوَّن. ولا يجدون أي تبرير لإلصاق تُهَم التخوين بالعلاقة مع إسرائيل، تجاه الكثير من الشركات الاستشارية.

 

المهمّ أن دياب بدأ يعرف إلى أين سيصل، فأطلق الإشارة الأولى إلى الجميع: حاولتُ، لكنكم قطعتم عليَّ الطريق! وفي الأيام المقبلة، ستكون للحكومة خطوات متدرِّجة للتحرُّر من «عقدة الذنب».

 

عندما بدأ يضيق هامش النجاح مع الصندوق، خرجت إلى العلن عودةٌ إلى المساعي «القديمة» المجرَّبة مع فرنسا والخليجيين. لكنها أيضاً باءت بالفشل، لأنّ الأميركيين - نتيجة توازنات القوة والمصالح - هم أصحاب الأمر والنهي في أيّ قرار لمساعدة لبنان.

 

وسبق ذلك، محاولة «زَكزكة» بإعلان استعداد موسكو لدعم لبنان وإنقاذه. طبعاً، عَمد الروس أنفسهم إلى نفي ذلك، لأنّ حدود الفصل والتداخل بينهم وبين الأميركيين في لبنان وسائر الشرق الأوسط واضحة ولا يخلّ بها أيّ من الطرفين.

 

واليوم، بدأت تتفتّق العبقريات اللبنانية عن إطلاق بالونات أخرى: نحن بلد نفطي، ملياراتنا قابعة في باطن البحر، ولا نحتاج إلى أموال أحد، ولا حتى إلى الإصلاح، و«مَصاري خير الله» . وأمّا الجرد فهو معطاء بالحشيش «المشرَّع» القادر على تحصيل المليارات.

 

سمع اللبنانيون أصوات الزغاريد والمفرقعات احتفالاً بدخول بلدهم التاريخ كدولة عظمى. يقول لهم المسؤولون: نكاية بكم سنأتي بالمال من دون أن نظلم أحداً من جماعة الأموال المنهوبة أو المهرّبة أو الصفقات المشبوهة والتلزيمات والمناقصات. سنبرهن للعالم أنّ لبنان هو بلد فريد من نوعه: «ينام» على دخان الغازات ودخان الحشيش، و»يقوم» بمعجزة… وبلا إصلاح!

 

أولاً، قبل «الفيول»... ما يصير بالمكيول»، كان مناسباً انتظار جماعة الحفر ليقولوا ما إذا كانت هناك غازات في البلوك 4، بالكمية الملائمة للاستخراج والتجارة… بعد 5 سنوات أو 7 أو 9… إذا تمّ كل شيء على ما يرام.

 

فالبحر الأبيض المتوسط يشهد نزاعاً مريراً بين خطوط الغاز الشرق أوسطية - الأوروبية، وفيها أدوار أساسية لإسرائيل وتركيا وروسيا وبعض الأوروبيين والعرب، وطبعاً هناك حصة أساسية للولايات المتحدة الاميركية. فأين سيكون لبنان في ذلك العصر… والأصحّ: هل سيكون لبنان؟ كيف؟ ومع مَن وضد مَن؟ ولمصلحة مَن؟

 

هناك تسرُّع مقصود في المناداة على بيع السمك، وهو في البحر، فيما «السمك» الحقيقي، الكبير الذي أكل الصغير، وأكل البلد، لا أحد يفكّر في مساءلته أو حتى معاتبته، وهو يزداد تباهياً بارتكاباته.

 

لكنّ تطيير «الفيول» الإصلاحي لن يوصل إلى أي مكان، ولا دخان الحشيشة. ربما يرتفع البعض، على ضغط البخار، قليلاً، لكنه سيسقط. وحينذاك، سيكون سقوطه عظيماً.