أكثر من مؤشر يدلّ الى أنّ المكونات الحكومية ما زالت تتعامل مع الأزمة المالية بخفة، فيما إخراج لبنان من هذه الأزمة يتطلب إدارة مختلفة، وما لم يتم تدارك الأمر فإنّ الانتقال من إدارة الفوضى إلى الفوضى الشاملة يصبح حتميّاً.
 

3 مؤشرات أساسية كافية للدلالة الى عدم جدية الحكومة، وهذا لا يعني الحكم عليها بالإعدام، إنما في حال استمرار هذا المسار سيعني أنّ الفرصة الأخيرة التي تشكلها هذه الحكومة ستتبدّد سريعاً وسيدخل لبنان في المحظور الذي يصعب معه تَوقّع السيناريو الذي سيأتي بعده.

 

وقد برزَ عدم الجدية أولاً من خلال تبنّي موازنة الحكومة السابقة وبيان وزاري لا علاقة له بالظرف الاستثنائي الراهن، كما برزَ ثانياً في طريقة التعاطي مع فيروس «كورونا» حيث خضعت للسقف الذي وضعه «حزب الله» بعدم المَس بالرحلات بين طهران وبيروت مبدّياً الاعتبار الأيديولوجي على الأمن الصحي خلافاً لأي منطق إنساني، وبرزَ ثالثاً في رفض التعاون مع صندوق النقد الدولي الذي تم وصفه بالصندوق الاستعماري والاستكباري والإمبريالي في إحياء لأدبيات تعود إلى زمن غابر، فيما السبب الأساس للتحفظات عن الصندوق يكمن في رفض الإقدام على خطوات إصلاحية جدية تؤدي إلى إنهاء مصالحهم الزبائنية والمالية.

 

وتقدّم هذه المؤشرات صورة واضحة عن السقف الذي تعمل تحته الحكومة، فهي مقيّدة بالاعتبار الأيديولوجي لـ«حزب الله» من جهة، وبالاعتبار المصلحي للحزب وحلفائه من جهة أخرى، وهذا السلوك غير المقبول أساساً كان «يصحّ» في الأوضاع الطبيعية وليس في ظل هذا الوضع الكارثي، حيث يبدو انّ مكونات الأكثرية الحاكمة ما زالت تراهن على قدرتها في الخروج من المأزق باعتماد سياسة الحد الأدنى من الإجراءات، فيما العبور إلى شاطئ الأمان يتطلّب إجراءات الحد الأقصى التي بالكاد يتمكّن لبنان من خلالها ان يحقق العبور الآمن.

 

وفي سياق الاستخفاف نفسه تأتي الاحتفالية ببدء التنقيب عن الغاز، ما يدلّ الى انّ هذا الفريق السياسي لم يَتّعظ من الانهيار الحاصل ويواصل السياسة نفسها، معتقداً انّ تخدير الشعب بوعود نفطية كاف لإخراج لبنان من ورطته، فيما دول نفطية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى على غرار فنزويلا والعراق في حالة إفلاس بسبب الفساد والهدر، ولبنان لن يرقى إلى الدول النفطية لا بل بالكاد الأموال التي سيجنيها ستسدّ جزءاً من الدين المُتراكم بسبب السياسة الفاشلة على مستوى الدولة عموماً، وفي قطاع الكهرباء خصوصاً، وكيف بالحري إذا كانت الإدارة نفسها ستتولى ملف النفط، فيما من المعيب تصوير ثروة لبنانية بالثروة العائلية أو بالإنجاز العائلي.

 

فصحيح انّ أمام حكومة الرئيس حسان دياب فرصة، ولكن هذه الفرصة مشروطة بالقدرة على اتخاذ التدابير والإجراءات القصوى المطلوبة، ولا يبدو حتى اللحظة انّ الحكومة في هذا الوارد بمعزل عمّا إذا كانت المسؤولية تقع على الأكثرية المكوّنة للحكومة أم على دياب نفسه في اعتبار انّ النتيجة نفسها، خصوصاً انّ في إمكان رئيس الحكومة رفض التجاوب مع شروط هذه الأكثرية لأنّ سقوط الحكومة يعني سقوطه أيضاً.

 

وفي حال لم تتمكن الحكومة من إنقاذ الوضع عن طريق المساعدات الخارجية والإصلاحات الداخلية البنيوية، فإنّ سقوطها سيكون حتميّاً، والوقت لا يلعب لمصلحة الحكومة. وبالتالي أمامها أسابيع قليلة لتظهر خطوات جدية وملموسة خلافاً لِما أظهرته حتى الآن، وإلّا سيكون لبنان أمام خطر جدي، وتشكيل حكومة أخرى لن يكون بالسهولة التي يتصورها البعض، لأنّ الوضع سيدخل في فوضى ما بعدها فوضى، ما يعني إمّا التقاط الفرصة الأخيرة المُتاحة، وإمّا تحمّل عواقب مواصلة السياسة نفسها.

 

ولا يُجدي الكلام عن مؤامرة وخلافه، لأنّ السبب الرئيس للانهيار مردّه الى الفساد المستشري في عروق الدولة، كما انّ التخلّف عن الإنقاذ تتحمّله الأكثرية الحاكمة لا المجتمعَين الدولي والعربي. وفي حال استمر الاعتقاد انّ سياسة «مِن قَريبو» قادرة على إخراج لبنان من أزمته، فيعني انّ الأكثرية «تسبح» في الفضاء ولا علاقة لها بالواقع.

 

وتخطئ هذه الأكثرية إذا اعتقدت انّ في إمكانها مواصلة سياسة business as usual من دون التخلي عن امتيازات ومكاسب ومصالح ونفوذ اكتسبتها منذ 13 تشرين 1990، وما لم تقتنع بضرورة تقديم تنازلات مؤلمة على مستوى سلطتها وزبائنيتها ودورها ونفوذها فإنها تعرّض نفسها ولبنان للسقوط المدوي.

 

فالأنظمة الديكتاتورية لا تتهاوى عن عبث، بل نتيجة انفصالها عن الواقع واعتمادها سياسة حافة الهاوية في ظل اعتقاد راسخ لديها بأنها أبدية وسرمدية وقادرة على تجاوز الصعوبات، فيما تقف الأكثرية اليوم وجهاً لوجه أمام الحقيقة المؤلمة التي تضعها بين خيارين: إمّا خطوات فوق العادة تُفرمل الانهيار وتقنع الخارج بالمساعدة، وإمّا السقوط الحتمي في الهاوية.

 

وأيّ متابعة لمسار الأحداث منذ 3 سنوات إلى اليوم تظهر انّ هذه الأكثرية لم تأخذ بكل التحذيرات من خطورة الأوضاع المالية، فيما كان في استطاعتها لو استدركت واتخذت بعض الخطوات البسيطة ان تجنِّب لبنان الانهيار الحاصل، ولكنها تكابَرت وتعاملت باستخفاف بعيداً عن اي استشراف أو رؤية حقيقية للوضع، ومواصلة سياسة التعمية نفسها ستقود إلى الأسوأ، فيما كان يفترض أن تَتعِظ من الحصيلة الموجودة أمامها، ولكن، ويا للأسف، لا حياة لمن تنادي.

 

فما تقدّم من مؤشرات لغاية اللحظة غير مطمئن على الإطلاق ويبدو أن «الحبل على الجرار»، ولكن مع فارق أساس بين الأمس واليوم انّ هيكل الدولة معرّض للمرة الأولى منذ العام 1990 للسقوط بسبب السياسة الفاشلة للأكثرية الحاكمة، وحكومة دياب ستكون آخر حكومة في عهد الرئيس ميشال عون، وفشلها سيقود إلى مرحلة انتقالية والأرجح ان تكون بقيادة عسكرية لنقل لبنان إلى مرحلة جديدة. فهل تستدرك هذه الأكثرية قبل فوات الأوان؟ أم انّ ثمة مصلحة لبنانية بتغيير شامل بدلاً من الترقيع غير المجدي؟