أي دولة هذه التي يُسيّرها المرابون والانتهازيون والجهلة والمغفلون؟ إنها الدولة التي لا تسمع أصوات أصحابها الحقيقيين، لأنها دولة بلا آذان.
 

في كل مرة يزفُّون إلينا رئيسا جديدا للوزراء في العراق، طيلة خمس عشرة سنة، يفعلون الشيء نفسه، يتحمسون في تأييده ويلبسونه ثياب أبي زيد الهلالي، ويقلدونه سيف عنترة، ويكثرون من بياناتهم وتصريحاتهم المتفائلة ويعدوننا بأنه الوحيد القادر على أن يرفع الزير من البير، وأنه الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، أيضا.

وعلى عاداتهم في كل تشكيل وزارة يخرجون كل ما لديهم من فنون الكلام المزوق الجميل متغزلين به وبأصله وفصله، في العلن، ولكنهم في السر يحرصون على أن يعرّفوه بما لديهم من قوة ومن رباط الخيل، لكي يحسب حسابه، ولا يقع في المحظور، ويوافق على إعطائهم حصصَ أحزابهم، أو ميليشياتهم، أو قبائلهم، أو طائفتهم، في العملية السياسية التي زرع شوكها بول بريمر أو زلماي خليل زاده، وأخفى تحت جلدها جراثيم المحاصصة الطائفية العنصرية العصية على العلاج، ثم خرج تاركا وراءه أيتامه يتناطحون، ويتقاتلون على الهريسة وليس على الحسين.

وفي كل مرة أيضا يجد المرشح للرئاسة فريقا من فرسان المنطقة الخضراء مستميتا في احتضانه، وفي الدفاع عنه وعن وزارته، ممن تكرم عليه الرئيس بأشد الوزارات قوة وسطوة، وأكثرها دسامة، ثم يجد فريقا آخر غاضبا ناقما عليه وشاهرا سيفه باسم الدستور وحرمة الوطن ومصالح الشعب العراقي، ومطالب المتظاهرين.

والحقيقة هي أنه يبكي على مصالحه الحزبية أو العشائرية أو الطائفية أو العنصرية، وهو أول المنافقين، وأخطر الحرامية، وأكبر الكاذبين.

الدافع لكتابة هذا المقال هو أن المقربين من رئيس الوزراء المكلف، محمد توفيق علاوي، روجوا لمقولة مفادها أنه “رفَض طلباتٍ من قوى سياسية شيعية وسنية وكردية بإشراك ممثليها في الحكومة، فانقلبت عليه”.

وعلاوي، نفسه، أعلن صراحة أنه علم بوجود مخطط لإفشال تمرير الحكومة، مؤكدا أنه سبب هذا الانقلاب عليه. وقال إن “تفاصيل المخطط تتمثل في دفع مبالغ باهظة للنواب لجعل التصويت سريا، خلال جلسة منح الثقة”.

الأمر الذي جعل مجلس النواب يرسل كتابا رسميا إلى الادعاء العام يطلب فيه اتخاذ الإجراءات القانونية الفورية بشأن ما ادعاه علاوي بشأن وجود “مخطط لإفشال تمرير الحكومة من خلال دفع مبالغ مالية باهظة للنواب”.

وأصل المشكلة أن الكتل الشيعية الممسكة بتلابيب مجلس النواب، وحسب الأوامر الواردة من وراء الحدود، لا تريد أن تنفرد بمنح الثقة للحكومة في غياب الشركاء الآخرين من سنة السفارة الإيرانية والسفارة الأميركية في العراق، وتصر على ضرورة إرضاء النواب الأكراد والسنة، خوفا على العملية السياسية التي قامت واستمرت، أساسا، على التفاهمات بين فرسانها الكبار. كما أن تشكيل حكومة من النوع الذي يريده علاوي سوف يعطي المتظاهرين ما قد يعتبرونه انتصارا لهم على الحكومة والبرلمان، وهي جريمة لا تغتفر.

فمحمد الحلبوسي، رئيس مجلس نواب الشعب العراقي، مثلا، قد حمَّل رئيس الجمهورية برهم صالح مسؤولية اختيار علاوي، واتهمه برفض تكليف شخصيات طُرحت أسماؤها عليه قبل محمد علاوي، واصفا ذلك بأنه مخالفة للدستور.

لكن الرئيس كذبه علنا، وقال “إن رئيس البرلمان حضر شخصيا مراسم تكليف علاوي، ووافق على القرار صراحة”.

ويقال إن المناصب الوزارية معروضة للبيع والشراء، خلف الأبواب المغلقة، خصوصا بين أقطاب التيارات والتجمعات السنّية التي افتضح أمر تكالبها على وزارات معينة تدر حليبا أكثر من غيرها، وما كلامهم الممل عن الديمقراطية والوطنية والعروبة ومصالح الطائفة السنية فأحاديث عن السلاطين.

أما زعماء الأحزاب الكردية (الشقيقة) فمنذ عام 1990 وهم يتظاهرون بأنهم فقط ضد النظام الاستبدادي العراقي، وأنهم يناضلون، مع قوى التحرر العربية العراقية الأخرى، من أجل تحرير الشعب العراقي من دكتاتورية صدام حسين، ومن أجل إقامة نظام ديمقراطي عادل وعاقل يُنصف المواطن، مهما كان دينه أو قوميته وطائفته.

ولكنَّ الذي تلى سقوطَ نظام صدام حسين من مشاكسات وصفقات وتحالفات وصراعات، أثبت أن قادة الأحزاب الكردية انتهازيون بامتياز.

فقد تنكروا للقوى الديمقراطية العراقية، وتحالفوا مع إيران وأحزابها الرجعية الطائفية العميلة الفاسدة، واقتسموا معها الغنيمة، دون وازع من وطنية وديمقراطية وعدالة ولا ضمير.

وبين هذا وذاك نزف دم كثير، واحترقت بنار الحروب مدن وقرى عديدة، عربية وكردية معا، ودُفن أهلها تحت أنقاضها.

والواقع المر أن إقليم كردستان ليس دولة مستقلة، فتتعامل مع “جارتها” الدولة العراقية معاملة الجيران والأشقاء، ولا هي جزءٌ حقيقي من الدولة، ولها ما لأي جزء آخر من الوطن من حقوق، وعليها ما عليه من واجبات.

وقد ثبت بالدليل المحزن البغيض أنهم يضعون مصالح أحزابهم وعشائرهم فوق كل شيء، حتى فوق مصالح الشعب الكردي ذاته. وتظاهرات السليمانية الغاضبة الأخيرة ضد دكتاتورية الأسرتين، آل بارزاني وآل طالباني، دليل على ذلك، دون ريب. أما الوطن العراقي، ومصيره، وأهله، فآخر ما يعنيهم مع الأسف الشديد.

فأيّ دولة هذه التي يُسيّرها المرابون والانتهازيون والجهلة والمغفلون؟ إنها الدولة التي لا تسمع أصوات أصحابها الحقيقيين، لأنها دولة بلا آذان.