في الوقت الذي باتت البلاد على قاب قوسين أو أدنى من صدور اقتراحات صندوق النقد الدولي ارتفع منسوب القلق لدى المسؤولين الكبار من احتمال فشل الحكومة في توحيد موقفها منها قبولاً أو عدمه. فرفض «حزب الله» مثل هذا التطور وضعَ أركان الحكم أمام مأزق جدي لفقدان البدائل العملية. الأمر الذي عزّز الاقتناع بأنّ الرفض يدفع البلاد الى المجهول. كيف ولماذا؟
 

يبحث الخبراء عن البدائل والإجراءات الممكنة للخروج من المأزق المالي الخطير الذي دخلته البلاد جرّاء رفض «حزب الله» مبدأ الالتزام باقتراحات بعثة صندوق النقد الدولي قبل ان يقول كلمته بلا جدوى. فالبدائل متعثرة، وإن وجدت فهي طويلة الآجال تتجاوز قدرة اللبنانيين على تحمّل ما آلت اليه الأزمة وتردداتها المتوقعة في وقت قريب واستمرار إذلال اللبنانيين امام المصارف. فالشعارات التي رفعها الثنائي الشيعي المعروفة سلفاً في كتب «علم الإقتصاد السياسي» وما فيها من نظريات، والتي تمّ حصرها بطلب المعونة «التقنية والفنية» دون غيرهما لم تعد وهماً، بعدما ترجمها نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم بكل فصاحة ووضوح فور الاقتراب من المرحلة الحاسمة التي توجِب اتخاذ القرار.

 

لم يكن موقف قاسم مفاجئاً لمَن كان يترقّب المواقف بدقة، ويحتسب لمثل هذا الاحتمال ويقدّر مخاطره. فقد كشف قاسم بالوجه الشرعي الذي لا يقبل ايّ لبث او جدل عن مسلسل لاءاته الثلاثة عندما قال في لقاء سياسي قبل يومين: «نحن لا نقبل أن نخضع لأدوات استكبارية في العلاج»، و»لا نقبل الخضوع لصندوق النقد الدولي ليدير الأزمة» و»لا مانع من تقديم الاستشارات».

 

ولذلك فقد جاءت هذه التأكيدات لتلقي بظلالها الكثيفة والسوداء على الوسط الحكومي منذ لحظات إطلاقها أمس الاول مع احتمال ان تقود الى «الانقسام الحكومي المبكر» من شكل ومضمون القرار المنتظر من الحكومة. فالمكونات الوزراية الأخرى لم تقل كلمتها ايضاً على الأقل في العلن في انتظار بلورة الموقف، وإنّ اكثرية الوزراء، ولاسيما منهم أصحاب الاختصاص، يدركون اهمية ان يبقى لبنان على خط الصندوق والتزام الآليات التي يوصي بها، خصوصاً انها ستكون متوائمة مع قدرات اللبنانيين ولا تخرج عن دائرة القدرة على تنفيذها.

 

ولذلك فقد عبّرت مراجع حكومية عن قلقها ممّا هو آت من مناقشات عند البحث في المرحلة التي تلي توصيات او اقتراحات بعثة الصندوق. فليس هناك من شك في تَفهّم الجميع لِما بلغته حدّة الأزمة وما هو متوقع في القريب العاجل، ما لم ترسم خريطة الطريق الى الحل والاعلان عنها لمعرفة قدرة السوق واللبنانيين على تحملها. فرغم لاءاته القاسية، اعترف قاسم بما يدركه جميع القادة اللبنانيين ويشاركونه الرأي، وتحديداً عندما أفصح بوجود «أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية ضاغطة وصعبة جداً في لبنان».

 

وبعدما لفت قاسم الى ما لا يخضع لأيّ نقاش، قال انها تحتاج الى وقت للعلاج، وهو ما يختلف المسؤولون حول مَداه وفق أكثر من نظرية وسيناريو. ويمكن الإشارة اليها بالآتي من الملاحظات قياساً على حجم الانقسام الحاد من عدم الاستعانة بخطة الصندوق او العكس، وفق الآتي:

 

- أصحاب النظرية الأولى يعتقدون انّ الاستعانة باقتراحات الصندوق غير واجبة وليست ضرورية. وهم يراهنون على سلسلة من الإجراءات التي يمكن اللجوء اليها، وأبرزها استعادة مليارات اللبنانيين التي نقلت الى الخارج سواء بطريقة مشروعة او غير مشروعة بما فيها تلك المنهوبة، وهو أمر قد يستغرق أشهراً وربما سنوات، فهل يحتمل الوضع ومعه المودعون هذه الفترة الغليظة من الانتظار؟

- أمّا دعاة النظرية الثانية فهم واثقون بنسبة أكبر من انّ مصادقة لبنان على اقتراحات بعثة الصندوق والتزامها هي البوابة الإجبارية الى استعادة الثقة الدولية والمحلية بالقطاع المالي والمصرفي. ويمكن في هذه الحال استدراج الرساميل الخارجية والداخلية للعودة الى لبنان من اجل النهوض بالإقتصاد الوطني وإطلاق المشاريع الإستثمارية التي يمكن ان تنقل الإقتصاد من مكان الى آخر، ولاسيما نحو الإقتصاد المنتج لا الريعي والخدماتي الذي يستند الى المعونات الخارجية وتحويلات المغتربين التي تقلّصت الى الحدود الدنيا. فبعض الدول التي تحتضن هؤلاء تعيش أزمات متلاحقة مالية وسياسية وامنية، ومنها تلك التي شلّت فيها قطاعات واسعة من التجارة العالمية بعد ظهور وباء «كورونا» في القارات والدول الكبرى.

 

على هذه الخلفيات، تختلف الآراء والنظريات حول ما يمكن ان يؤدي إليه موقف «حزب الله»، فإن قادَ الحكومة الى ما يريده من رفض لاقتراحات الصندوق قبل صدورها - وكما يشاء - يكون قد جَرّها تلقائياً الى صفتين سلبيتين: أولاهما انها حكومة «حزب الله» كما وصفها العالمان العربي والغربي في شكلها ومضمونها وأدائها، وهو ما سيعزّز الحصار المضروب او المشروط على لبنان من جهة. وثانيهما إثبات عجزها عن مواجهة الأزمة بالسرعة القصوى التي يمكن ان يقوم بها الصندوق، ومعه المؤسسات الصديقة كالبنك الدولي والبنوك الإستثمارية والمؤسسات المانحة وسط التشكيك بقدرة الدولة على امتلاك أدوات الإنقاذ من دون هذه المساعدة الدولية.

 

وانطلاقاً مما تقدم، تجدر الإشارة الى انّ الساعات المقبلة ستحمل اولى المؤشرات التي يمكن ان ترسم السيناريو المقبل وستحد بالطبع من كثرتها وتنوعها. فإن مَضت الحكومة في العمل وفق نصائح الصندوق تكون قد دخلت المرحلة التالية من خطة الإنقاذ بنجاح. امّا إذا لجأت الى الخيارات الأخرى التي يدعو اليها «حزب الله»، والتي ستشكّل البدائل من خطة الصندوق، تكون البلاد قد دخلت مرحلة جديدة من الإنهيار الذي قد يكون سريعاً ومؤلماً في انتظار أن تتوافر للحكومة الآليّات التي يمكن ان تضع حداً لهذا الأنهيار، وهي صعبة المنال إن لم تكن شبه معدومة حتى اللحظة.

 

ولا يختلف المراقبون عند مقاربتهم هذه المعادلات التي تتحكم بآلية العمل الحكومية. فهي وإن عجزت عن مقاربة اقتراحات صندوق النقد بالطريقة المثلى، فإنّ من المحتمل أن تتدحرج الأمور نحو الأسوأ لمجرد فقدان الثقة بوجود مخارج قابلة للتنفيذ، وعندها لا يمكن من اليوم إحصاء السيناريوهات السلبية المنتظرة وأقلّها ما يمكن ان يحصل من فلتان أمني واجتماعي قد تكون «ثورة الجياع» من أولى مظاهره السلبية لتشكّل قفزة كبيرة نحو المجهول.