بغية إلجام من تسوّل له نفسه ادّعاء: أنّ المراقد والقبور المعروفة في الأوساط الإثني عشريّة تمتلك حصانة ذاتيّة سماويّة من الأوبئة والأمراض المتفشيّة عن طريق الهواء، ولأجل ذلك ينبغي على المبتلين بها أو المحتمين منها : الّلوذ بها والاحتماء بأروقتها وتقبيل أضرحتها والتّزاحم على زيارتها؛ فهي الإكسير الأعظم والكبريت الأحمر... أقول بغية إلجام أمثال هؤلاء أجد من المناسب تكذيب مدّعياتهم من خلال دعوتهم لقراءة تأريخ النّجف في القرون الخمسة الأخيرة ورؤية أعداد العلماء الّذين توفّوا بسبب الطّاعون الّذي حلّ فيها، فضلاً عن الأعداد الهائلة من العلماء الّذين ماتوا في بقيّة المحافظات العراقيّة وغيرها بسبب ذلك.

 

ولأجل إغلاق منافذ النّقض على ما ننقل لن نستعين بكلمات مؤرّخ كيلا يُقال: إنّ وثاقته غير معلومة فضلاً عن ثبوت عدم معاصرته كما هو شأن المذهبيّين، وإنّما بنصّ كتبه يراع المحدّث الإثني عشريّ المرحوم نعمة الله الجزائريّ المتوفّى سنة: "1112هـ" في كتابه الّذي حمل عنوان: "مسكّن الشّجون في الفرار من الطّاعون"، والّذي كتبه في خصوص الطّاعون الّذي حلّ بالعراق ومشاهده وعتباته في أيّامه، حيث قال في مقدّمته ودواعي تأليفه ما يلي:

 

قد وقع في العراق وتوابعه وباء وطاعون في العام الثّاني بعد المائة والألف الهجريّة، وهو عام تأليف هذا الكتاب، وكان من أعظم مصائب الدّين؛ لما فقد به من العلماء والصّالحين، سقى الله أرواحهم سجال رحمته وأفاض عليهم أنوار مغفرته، وقد بلغنا: أنّ طائفة منهم اختلفوا في حكم الفرار منه؛ فجوّزه قوم، ومنعه الأكثرون، وربّما توقّف ثالث، وحيث إنّه حكم تعمّ فيه البلوى، ويحتاج إلى الكشف عنه بالمنطوق والفحوى، ألّفنا هذا الكتاب الصّغير...».

 

وبعد أن تحدّث في هذه البحوث وصل إلى ذكر هذه الحقيقة التّاريخيّة الّتي عاصرها بنفسه فقال: «قد وقع في هذه السّنة ـ وهي السنة الثّانية بعد المائة والألف ـ وباء وطاعون وموت فجأة في بلاد الرّوم من استنبول والشّامات، وجاء إلى بغداد والمشاهد المعظّمة، ثمّ أتى إلى سكّان الفرات من أهل الجوازر والجزاير، ثمّ وقع في البصرة، ثمّ سرى منها إلى الحويزة والدّورق، وقد فقد منه خصوصاً من الحويزة والدّورق طوايف كثيرة من العلماء والصّلحاء، وأهل الزّهادة والعبادة، فتعطّلت بعدهم المدارس، وخلت منهم المساجد، فالعلم ينوح عليهم، والصّلاة تبكي لفقدهم... ويحقّ لنا أن نُسمّي هذا العام عام الحزن...». [نسخة خطيّة].

 

ورغم اشتمال الكتاب على غرائب مذهبيّة عميقة سنتحدّث عنها في بحوث لاحقة، لكنّا نتمنّى ـ بعد قراءتنا لهذه الحقائق الّتي تدحض فكرة حصانة المراقد والعتبات عن الأوبئة ـ أن يبتعد أمثال هؤلاء المنغمسين في الأوهام المذهبيّة عن تسطيح وعيّ النّاس وتعميق المقولات المذهبيّة الباطلة في أذهانهم، واستغلال فاقتهم ومعاناتهم في حثّهم نحو المشاهد والعتبات والّتي هي الموطن الأساس الّذي يمكن من خلاله انتقال هذه الأوبئة والأمراض، وعلى النّاس الابتعاد في مثل هذه الظّروف أكيداً عنها، فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.