"لا تحكم على الكتاب انطلاقا من الغلاف"، بهذه المشاكسة افتتح الروائي والأديب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل حديثه لجمهوره من التونسيين الذين تجمعوا يوم 22 فبراير/شباط في المكتبة الوطنية التونسية لاكتشاف "الرجل المكتبة"، الذي خطا خطواته الأولى سنة 1948 طفلا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث شغل والده حينها منصب سفير الأرجنتين لدى إسرائيل.
 
لم تعرف حياة مانغويل الاستقرار منذ ولادته، فقد كان دائم الترحال، ففي العام 1969 سافر إلى أوروبا وعمل قارئا ومدير نصوص لشركات نشر وطباعة مختلفة، وشكلت هذه المرحلة من حياته المهنية الدافع الرئيسي والمرجع الأهم لولعه بالقراءة وانكبابه عليها ثم دخول عالم الكتابة والرواية.
 
وعرفت زيارة مانغويل لتونس صخبا إعلاميا كبيرا إثر إعلان بيت الرواية التونسي تراجع وزارة الشؤون الثقافية التونسية عن التكفل ماديا باستقبال الأديب مانغويل بحجة عدم التنسيق معها، الأمر الذي حدا بالعديد من وجوه الساحة الثقافية في تونس إلى تمويل هذه الزيارة بصفة تطوعية.   
 
القضايا الإنسانية
يتذكر مانغويل في مداخلته حول مفهوم المنفى أو التغرب القسري التي تجلت خصوصا في رواية "عودة" حوارا دار بينه وبين الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، يقول في هذا الصدد إنهما خلصا إلى اعتبار المنفى وضعية رمزية تتوارثها الشعوب وأن تاريخ الإنسانية يعج بالأمثلة الممتدة من الأزمان الغابرة إلى حد يومنا هذا.
 
يقول إن محمود درويش لم يعش ليرى أيضا الشعب السوري مشتتا بين دول العالم، لم يعش ليشاهد صرخات وآلام أطفال المكسيكيين الذين يحاولون العبور إلى الولايات المتحدة الذين يفتكون من أحضان آبائهم ليوضعوا في مراكز تجميع ستطبع إقامتهم المهينة فيها ذاكرتهم إلى الأبد، مضيفا "يحدث هذا الآن بينما نحن هنا نتحدث عن الأدب والرواية...".
اعلان
 
ويضيف أنه لا أحد يتألم مثل الشعب الفلسطيني اليوم الذي اقتلع من أرضه وأجبر على مغادرة دياره نحو المهجر، وأن الجميع يغمض عينيه عن المآسي التي يعيشونها، ورغم وجود أدباء وسياسيين يتناولون هذا التشريد الذي يعاني منه الفلسطينيون في كتاباتهم وخطاباتهم، فإنه لا توجد أية حكومة تعمل فعليا على إيجاد الحلول المناسبة لهم التي تتلخص في إعادة أراضي الفلسطينيين المسلوبة منهم.
 
وعاش مانغويل عاش سنوات طفولته الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة عندما كان والده من سنة 1948 إلى 1956 سفيرا للأرجنتين في إسرائيل.
 
 
مكتبة وطنية فلسطينية
في تعليق له عن دور المثقف تجاه القضايا الإنسانية يقول مانغويل إنه في يوليو/تموز 2016 خلال توليه منصب مدير المكتبة الوطنية الأرجنتينية، حاول إحداث مكتبة وطنية فلسطينية، ولقيت هذه المبادرة حسب قوله قبولا واسعا من طرف المكتبة الوطنية الأميركية والفرنسية والبريطانية والعديد من المكتبات الأخرى، ولكن المراسلات مع شخصيات مهمة في الحكومة الفلسطينية استمرت إلى ما لا نهاية، بحسب تعبيره.
 
ويضيف أن هذا المشروع لم يعرف النور للأسف رغم اقتراح الجانب الأرجنتيني التكفل الكامل بهذه المؤسسة التي ستضمن حضورا فعليا للهوية والفكر الفلسطيني، لتكون إحدى وسائل تعريف العالم بالقضية الفلسطينية وبوجود هذا الشعب المهجر.
 
ودعا الحضور والقائمين على الرواية والأدب في تونس إلى السعي لإنجاز هذا المشروع الذي كانت مغادرته لإدارة المكتبة الوطنية الأرجنتينية وراء عدم مواصلة تحقيقه، مشددا على أن عدم وجود مكتبة وطنية فلسطينية ولو افتراضيا أمر لا يخدم قضيتها.
 
وفي المقابل يتذكر مانغويل كيف خصصت الأرجنتين فضاء للمكتبة الوطنية الأوكرانية التي أغلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبوابها وسجن مديرتها.
 
 
 
"مكتبتي جذوري"
يعتقد مانغويل أن المطالعة تمنح القارئ فرصة اكتشاف ومشاركة أحاسيس وانفعالات إنسانية ووجودية دون أن يضطر إلى أن يعيشها في الواقع، يتذكر أنه شاطر منذ طفولته آلام وأحزان العديد من شخصيات الروايات التي قرأها دون أن تجبره الحياة على أن يعايشها في الواقع.
 
ويخلص إلى أن القراءة تنمي الشعور بالانتماء إلى الإنسانية جمعاء، وأن الانتماءات المبنية على الهوية والجغرافيا والمذهب تعيق التواصل بين الشعوب، مبينا أن نسق الحياة التي عاشها متنقلا بين العديد من دول العالم جعله متعدد الجذور والأصول، ويعتبر أن مكتبته هي جذوره الوحيدة التي يعرفها.
 
وألف مانغويل مجموعة من الكتب التي تروي ولعه المطلق بالقراءة منها على سبيل المثال تاريخ القراءة، ويوميات القراءة، ورحلة إلى الأماكن الخيالية، ومع بورخيس، وأمهات وبنات، وقصص من البطريق، ومدينة الكلمات.
 
ويعرف مانغويل في الأوساط الأدبية والروائية العالمية باسم "الرجل المكتبة"، لجمعه أكثر من 40 ألف عنوان وكتاب في مكتبته الخاصة، ويقول في هذا الخصوص إنه يستطيع العيش دون كتابة ولكنه سيعجز حتما عن ذلك إذا منع من القراءة.
 
ويضيف أن بعض الحكومات تخشى القراءة العميقة للنصوص الأدبية التي تنتج شعوبا مفكرة وذكية، لذلك تعمد، على حد قوله، إلى إرساء منظومات دراسية وتربوية تقوم على تكريس "الغباء" لدى الأطفال لجعلهم يفقدون ثقتهم في ذكائهم، وكذلك القبول بالخطاب الدعائي الاستهلاكي الذي يخنق الخيال والفكر، وبذلك تتحول المدارس إلى تجمعات تدريبية تعد أجيالا من العبيد للعمل في الشركات والمصانع، بحسب تعبيره.
 
ويختم قوله في ختام مداخلته بشأن أهمية القراءة والمطالعة بأن الكتابة لا تستطيع تغيير الواقع ولكن القارئ قادر حتما على ذلك.