غياب الإطار منح التظاهرات في العراق ولبنان قوة جامعة وجامحة، لأنه جاء واسعا، ليشمل كل البلد من دون أن يضيق برؤية مغلقة، أو يختنق بانتساب أيديولوجي.
 

الاحتجاجات العفوية تمتلك قوتها الخاصة. إنها غير قابلة للتأطير. المتأطرون هم الطرف الآخر الذي اختبره الناس ورأوا فشله. حزب الله في لبنان وأمثاله في العراق، ينتسبون إلى إطار. هذا الإطار تحوّل إلى سجن وانتهى إلى فساد.

غياب الإطار منح التظاهرات في العراق ولبنان قوة جامعة وجامحة، لأنه جاء واسعا، ليشمل كل البلد من دون أن يضيق برؤية مغلقة، أو يختنق بانتساب أيديولوجي.

 

نقطة القوة هذه، تقابلها نقطة ضعف. إنها تُتيح للمتأطرين القدرة على المناورة إن لم يكن في اختيار الحلول، وإنما في التكيّف معها على الأقل.

عندما يتحوّل هادي العامري، مثلا، إلى داعية من دعاة تغيير النظام، فإن على المتظاهرين أن يتحسّسوا خطرا. الشيء نفسه فعله حزب الله في لبنان. هؤلاء يسعون إلى أن يختطفوا التغيير بأن يحتضنوا تفاحته.

 

بالعودة إلى هتاف “كلهم يعني كلهم، والسيد واحد منهم”، فإن ما يقصده العفويون هو أن كل أولئك الذين شاركوا في صنع النظام القائم، يجب أن يُستبعدوا من دائرة صنع النظام الجديد.

سوف ترى المعضلة، الآن. فما لم تكن “على إطار ما”، فإنك لن تستطيع طرد “الإطارات” القائمة التي تتحكّم بكل مصادر النفوذ والقوة والقدرة على التحكّم بأسس ومقوّمات النظام.

 

بمعنى آخر. أنت تريد نظاما رئاسيا، على سبيل المثال. الوضع الراهن سوف يسمح لحسن نصر الله أن يكون هو ناخب الرئيس الجديد، ولسوف يجد مطية ما يمكنها أن تلعب الدور المطلوب.

عندما تذهب إلى الانتخابات، وأنت من دون “إطار” يمثّل الجامع والشامل والوطني يمكنك الثقة به، فإن مطية تابعة للمتأطرين هي التي سوف تفوز.

 

هل عرفت الآن، لماذا أصبح هادي العامري داعية من دعاة التغيير؟ هل عرفت لماذا لم يشعر حسن نصر الله بالخطر؟ لسان حالهما يقول “اختاروا أي حصان تشاؤون، ولسوف نركبه”.

بناء نظام جديد يتطلّب أكثر من مجرد أشخاص يتم اختيارهم على رأس السلطة والوزارات. إنه يتطلب نخبة أكفاء. هذه النخبة لا يمكن جمعها في “العفوية” أو العشوائية الاحتجاجية. يجب أن تلتئم في محيط “جبل أحد” ما، ويجب أن تعرف القوة التي تستند إليها.

 

هذه القوة نفسها يجب أن تظهر كقوة بالفعل. وأن تمتلك مقدارا من التنظيم والقدرة على توفير “القاعدة المادية” لبناء النظام الجديد.

وجود “إطار”، أو تحويل الحركة الشعبية المناهضة للنظام إلى “حركة منظمة” يمكن أن ينطوي على مشكلات أو مثالب. أحدها أن تعجز عن تمثيل كل الناس أو كل المطالب، أو أن تظهر كقوة تميل هي الأخرى إلى أن تتحوّل إلى حزب أو ميليشيا، كالسائد المراد التخلّص منه.

 

يقال “ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله”. مع ذلك فإن إرساء أسس جامعة يظل ممكنا. قيم الديمقراطية الشعبية تتيح بدائل معقولة. ويمكن لـ”مؤسسة” اللجان الشعبية أن تفرز نظامها الخاص الذي يضمن بقاء “الحركة” ضمن الخط العام للتحرك العفوي القائم.

الناس يعرفون ماذا يريدون، ويعرفون ما لا يريدون. كل هذا مكشوف ومعلن. وبذلك فإن “تأطيره” في “مؤسسة” شعبية، يمثلها مُنتخبون، ويتصدرها وطنيون أكفاء، يظل أمرا ممكنا.

 

هذه “المؤسسة” الشعبية سوف تظل تملك من زخم العفوية الكثير. كما أنها سوف تمثّل تطلعات الحراك العام وغاياته وأهدافه. ولكنها سوف تمتلك القدرة، بما أنها “إطار” واضح المعالم، أن لا تقع “العفوية” تحت أقدام الخبث وثقافة التقية التي يمارسها المتأطرون الآن.

تفاحة التغيير يجب أن تسقط في حضن أهلها لا في حضن أهل النفاق.

 

إذا ما عجز المتظاهرون عن أن يشكّلوا “الحركة” الشعبية أو “المؤسسة” التي تمثلهم، فإن جهودهم وتضحياتهم سوف تضيع. ولسوف يتم سحق التغيير وتحويله إلى تجربة فاشلة أخرى.

النموذج الذي يقدّمه المتظاهرون الذين يعتصمون بـ”المطعم التركي” أو “جبل أحد” في بغداد، نبيل وجذاب ويملأ النفوس بعاطفية تُدمع العين وتحرّك شغاف القلوب. الشارع نفسه يمتلئ بتلك العاطفية، ومظاهر التضامن بين المتظاهرين، كلها توحي بأننا نقف حيال قوة تستند إلى نسيج اجتماعي خلاق، كان هو النسيج الذي أنتج أعظم الثورات في التاريخ.

 

لو تمكّن المتظاهرون من اقتحام المنطقة الخضراء في بغداد، أو من السيطرة على المربع الحكومي في لبنان وطرد كل الموجودين فيه، لجاز القول إنه يمكن لإطار مؤسسي جديد أن ينشأ بفعل الأمر الواقع. ولسوف يفرض نفسه بنجاح.

ولكن ما لم يكن ذلك كذلك، فإن “ممثلية” مؤسسية من نوع ما يجب أن تنشأ للأخذ بالتغيير من الاتجاه الآخر.

 

الاقتحام حلّ. وهو حلّ مثالي، سريع وطاهر، ككل الثورات العظمى في التاريخ. ولسوف يكفي أن يُلقي بالنظام القائم إلى المزبلة دفعة واحدة. وفي المقابل فإن إطارا لحركة شعبية منظمة، حل آخر.

المتظاهرون، على أيّ حال، أدرى بما يستطيعون فعله. شيء واحد يجب أن يبقى نصب العين دائما: التكاتف للإمساك بعصب النسيج الخلّاق.