أيّاً كانت النتائج التي انتهت إليها مهمة وفد صندوق النقد الدولي، وبانتظار أن تقدّم البعثة إقتراحاتها نهاية الأسبوع فإنّ الكثير سيقال عنها وفيها، ما لم تصارح الحكومة اللبنانيين بما تم التفاهم في شأنه سيبقى البلد مسرحاً للشائعات التي يهدّد بعضها الأمن القومي والنقد الوطني. فلا مفر من ساعة المكاشفة وسط اقتناع يقول انّ الوفد لن يغصب لبنان لا على ما لا طاقة عليه ولا على ما لا يمكن تنفيذه. فلماذا وكيف؟
 

بالكاد تمكّن اللبنانيون من رصد تحركات أعضاء وفد صندوق النقد الدولي في بيروت، فهو حافظ على أعلى نسبة من الصمت حول من التقى وما سمعه وما اقترحه، لأنّ طبيعة مهمته تفرض نسبة عالية من التكتم لئلّا يفسّر كلامه على غير محمله في ظل ما أنبتته الظروف من خبراء ومحللين اقتصاديين، ومن أجل إتمام المهمة التي ارادها له مَن كلّفه بها في أفضل الظروف لمعرفته بحجم المصاعب التي يواجهها ودقتها في بلد تحكمه التناقضات.

 

كلّ ما فهمه بعض من تحدّث عن معرفة شخصية بأعضاء الوفد، ومن تجرّأ على تسريب القليل ممّا جرى البحث فيه اكتفى بالتوصيف «الناقص» و«الفايش» للمناقشات فحصرها بالعموميات. واكتفى بعضهم بالقول انّ اعضاء الوفد تَثبّتوا من كثير من الأرقام الغامضة، فلم يكن طبيعياً الّا يقدم المسؤولون الأرقام الحقيقية لهم. وحتى الأمس كان رئيس الجمهورية إضافة الى المسؤولين الكبار ما زالوا ينتظرون أرقاماً وإحصائيات دقيقة من حاكمية مصرف لبنان ووزارة المال. فالجميع على اقتناع بأنّ هناك كثيراً ممّا تمّ إخفاؤه منعاً لاحتمال كشف المُرتكبين أو تسرّبه الى حيث لا يجب، ولمنع استثماره في غير غاياته وفي تحليلات يمكن ان تؤدي الى زيادة التشويش القائم في البلد وتعزيز المخاوف ممّا هو آت.

 

ولذلك، توسّعت رقعة التحليلات والتسريبات المبنية على أرقام متناقضة ومشكوك في صدقها ودقّتها، وهو ما قاد وما زال الى سلسلة من النظريات التي يمكن ان تكون هدّامة. وما زاد في الطين بلّة لجوء بعض المتضررين «المتوجّسين» ممّا يمكن ان تؤدي اليه التحقيقات في بعض الحسابات إن دَلّت على تورّطهم في مجموعة من المخالفات الجسيمة ولو انّ بعضها كان قانونيّاً لكنها جاءت في توقيت دقيق جعلها إجراءات منافية للأخلاق تُسيء الى الحِس الوطني وتقدّم مصالحهم على حساب الوطن وأكثرية المواطنين.

 

وفي الوقت الذي أحصيَت مجموعة الكتب والمراسلات التي وجّهت الى المراجع المعنية طلباً للأرقام، فإنّ أحداً لم يحصل على جواب شاف أو رقم مفيد يمكن البناء عليه لاستشراف التوقعات. فكل الطلبات التي وصلت الى النيابة العامة المالية وأحالتها وزيرة العدل ماري كلود نجم أصولاً، أو من مجموعة الناشطين الحقوقيين، وأسئلة النواب منفردين ومجتمعين باسم كتلهم ما زالت تنتظر في الأدراج الى أن افتقد بعضها أهميّته بمرور الزمن أو أنّ المفاوضات التي بدأها وفد الصندوق أنهى الحاجة اليها.

 

وفي هذه الأجواء، وفي انتظار مصارحة اللبنانيين بما أنجزه وفد الصندوق وما أوصى به واقترحه، فقد شدّدت مراجع معنية على اهمية ان تكشف التحقيقات الجارية هويّة وأدوار المتورّطين من شخصيات وهيئات نشرت البيانات والبلاغات المزورة التي استغلّت التوقيع المزوّر لرئيس الحكومة والوزراء المختصّين لوَقف الضرر الذي تجلى بزيادة البلبلة في البلاد، والتلاعب بعواطف الناس وحَضّهم على ردات فعل يمكن ان تكون مسيئة للأمن والاستقرار. فإن بلغت التحقيقات المراحل المتقدمة، يمكن القول انّ هناك من يردع ويحاسب لبلوغ مرحلة استعادة شيء من الثقة المفقودة بالدولة ومؤسساتها والقطاع المصرفي الذي اهتَزّت صدقيته في ايام قليلة، فتحوّل من مدماك للاقتصاد الوطني الى محطة لمظاهر الشلل ومدخل الى الفوضى.

 

والى تلك المرحلة، تبقى الإشارة مهمة الى انّ ما تحتاجه المرحلة يكمن في تخفيف حدة الاحتقان في الشارع، والناجم من التشكيك المُسبق قياساً على الفشل في إصلاح اقتصاديات بعض الدول وإبراز الوجه الآخر حيث نجح في إنقاذ أُخرى للتدليل على انّ في إمكان لبنان تجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة. فما أكدته المراجع المعنية بالمفاوضات انّ الصندوق لن «يغصب» لبنان على اتخاذ أي إجراء لا يمكنه اتخاذه او انه لا يريده نتيجة الإنقسام الحاصل بين خيارات عدة. فمن بين الاحتمالات المتوقعة ان يرفض البعض اقتراحات محددة تحت شعارات مختلفة تستغلّ احياناً «السيادة الوطنية» وأوصاف «عقائدية قديمة» انتهت مفاعيلها في عصر «الإقتصاد المفتوح» العابر للقارات.

 

وهنا، يقول أحد العارفين انّ ما أكده رئيس مجلس النواب نبيه بري عقب لقائه بعثة الصندوق عن «حرص لبنان على الالتزام بالاصلاحات الجذرية المطلوبة لضمان نجاح العملية الانقاذية وعودة الثقة بلبنان» ـ إن ثبت - يشكّل مؤشراً مهماً يلقي الضوء على ما أكده قبل ايام قليلة رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، الذي قال في أول «تسريب مفيد» انّ البعثة ستقترح «خَفض نسبة الدين العام الى الناتج المحلي وإعادة تكوين رساميل المصارف عبر المساهمين فيها»، و«إمكان تحرير سعر الصرف وإعادة تنشيط الاقتصاد». مؤكداً انّ «أي مَس بالودائع لخدمة الدين العام يخالف جميع المعايير»، مطمئناً المودعين الى انّ هذا «لم يحدث في أي بلد عانى المصاعب المالية». ومشيراً الى أنّ «المَس بالودائع من قبلنا مرفوض»، ومؤكداً أنّ «الحلول تبدأ من فوق، أي من موازنة الدولة وإدارة القطاع العام وتثبيت الإرادة بإحلال الأمن والنظام لعودة الاقتصاد وإقرار الإصلاحات وتطبيقها بجدية». مُنتهياً الى انّ «في غياب الرؤية الشاملة الكاملة لن يكون ممكناً الاستفادة من المؤسسات الدولية».

 

وفي انتظار أيّ معلومات مفيدة ذات صدقية، لا بد من التوقف امام موقفين متلازمين ومتزامنين أطلقهما في عطلة نهاية الاسبوع وزيرا المال السعودي والفرنسي، لتبيان ما يمكن أن تؤدي اليه مهمة الصندوق اذا استجاب لبنان لها. فقد لفت الاول الى «انّ المملكة على تواصل مع الدول المعنية في شأن لبنان وتواصل متابعة ما يحدث...». فيما أكد الثاني: «إذا احتاج لبنان للمساعدة المالية فإنّ فرنسا موجودة». فما هو واضح انّ تحرّك وفد الصندوق في بيروت هو مَن أوحى بهذه المواقف وشَجّع عليها. فهو من دون أي شك الباب الأعرض لإخراج لبنان من المأزق لاستعادة الثقة بوجهَيها الداخلي والخارجي. وهو من يضمن إمكان دخول تلك المرحلة الإيجابية اذا صادَق على ما قرر اللبنانيون وبارَكه. فهل نصل الى مخرج؟.