الجريمة التي ارتكبت بحق السوريين لم تبدأ في إدلب. إدلب هي خلاصة الفجيعة. من اليسير هنا أن نلقي عبء الجريمة على النظام. صار ذلك مشاعا. ولكنه لا يمثل الحقيقة كلها.
 

كانت إدلب فخاً نصبته روسيا للحالمين السوريين، ولم تكن تمثل حلا إلا بالنسبة للجماعات الإرهابية التي تفرّقَ أفرادها الأجانب بين مختلف البلدان، ما إن خرجوا أحياء بفضل صفقات مريبة رعتها دول معروفة.

بالنسبة للتنظيمات الجهادية، وهي شركات أمنية تتألف من مرتزقة استأجرتهم قوى وجهات دولية من أجل توسيع دائرة الحرب في سوريا، فإن تلك الحرب كانت قد انتهت في إدلب.

أما السوريون الذين أبوا الاعتراف بأن الطريق قد أغلقت، فإنهم أوهموا أنفسهم بأن إدلب ستظل محميّة باعتبارها الجدار الأخير الذي يخطُّون عليه شعارات الحرية.

كانت الكذبة أكبر من أن يتمكنوا من كشف تفاصيلها. ولم يكن الرهان على الوقت صحيحا. ذلك لأن الأوراق اختلطت. ولم تعد المعارضة لتقوى على قول الحقيقة، بعد أن تم استضعافها، وتدهورت مصداقيتها في ظل التمويل غير الطبيعي الذي تمتعت به الجماعات الإرهابية.

لذلك تحولت إدلب من جنة للمقاومة، إلى مأوى للعيش الآمن.

غير أن ذلك لن يستمر طويلا. فالدولة السورية مطالبة باسترداد أراضيها وفرض سيطرتها على حدودها، وهو ما لا يمكن تحقيقه من غير استعادة إدلب بعد استعادة ريف حلب.

لا أعتقد أن أحدا يمكنه الاعتراض على ذلك.

مطلب قانوني طبيعي ينطوي على الكثير من وجوه المأساة.

فسوريو إدلب، الذين هم نازحون أصلا، لن يكون أمامهم سوى أن يقوموا بنزوح جديد. ولكن إلى أين؟

سيكون علينا أن نفكر بحيرة أكثر من مليون شخص صاروا عالقين بين وهمين.

وهمُ الإبادة الذي قد لا يكون حقيقيا، إلا إذا كان القرار يقوم على أن تتم استعادة إدلب أرضا محروقة.

ووهمُ اللجوء إلى الأماكن التي لم تصل إليها نار الحرب حتى الآن وقد تصلها في أي لحظة.

علينا أن نتخيّلَ مشهدا ثقيل الوطأة على الروح.

مليون إنسان هم شعب يطارد مصيره من غير أن يلتقط الخيط إلى حقيقة ما سينتهي إليه.

أطفال ونساء وشيوخ وشباب. الجميع على حد سواء يشعر أن ثيابه معبأة بالخوف وأن هناك مَن يتعقبه ليقتله.

الجريمة التي ارتكبت بحق السوريين لم تبدأ في إدلب. إدلب هي خلاصة الفجيعة.

من اليسير هنا أن نلقي عبء الجريمة على النظام السوري. صار ذلك مشاعا. ولكنه لا يمثّل الحقيقة كلها.

إدلب تكشف عن وجه آخر من وجوه الحقيقة السورية. هو وجه الضحية التي غدر بها الجميع. فهؤلاء الذين تضيق بهم الأرض الآن لم يكونوا مقاتلين.

لقد دُفعوا إلى أن يكونوا في المكان الخطأ. غررت بهم الجماعات المسلحة المهزومة، ولم يكونوا على ثقة بالنظام.

تلك حلقة منسيّة من حلقات الحرب في سوريا. وكم كان لاجئو إدلب سعداء بنسيانهم. كانوا سعداء لأن الجماعات الإرهابية حملت أموالها وهربت، غير أن النظام لم يبذل جهدا في تهدئة مخاوفهم.

ذلك ما سيدفع بهم مرة أخرى إلى الفراغ.

على المستوى الإنساني فإن النظام يرتكب حماقة كبرى في عملية عسكرية يقوم بها لأسباب وطنية. في تلك الحالة يمكن تقديم الإنساني على الوطني.

فليست سوريا في حاجة إلى أن تضيف صفحة جديدة إلى صفحات سجلها المأساوي.

غير أن الأمر قد يتخطّى إرادة النظام. ذلك لأن تركيا وروسيا تساهمان في تأجيج الوضع في إدلب، بما لا يساعد على البحث عن حل إنساني لمسألة شائكة.

لاجئو إدلب هم ضحايا غير أن إنقاذهم أمميا صعب.

فالدولة التي لا يثقون بنظامها من حقها قانونيا أن تعيد بسط سيطرتها على إدلب. وهم يعتقدون أنهم سيكونون مواطنين غير مرغوب فيهم.

كان من الممكن أن يكون الحال على غير ما هو عليه لو أن الدولة حاولت أن تطمئنهم إلى مصيرهم. ولكن الوقت أعمى.

لذلك فإن إدلب تخون التاريخ وتخلص إلى الجغرافيا.