تخدع الطبقة السياسية نفسها إذا اعتقدت أنّ انتفاضة 17 تشرين انتهت، ومن دون تحقيق أهدافها. أولاً، الانتفاضة تعيش فترة «هدوء نسبي»، وستفاجئ الجميع بأقوى أشكالها على الإطلاق في اللحظة المناسبة. وثانياً، هي حقَّقت أهدافاً حيوية جداً في الأشهر الأربعة الأولى من عمرها، لكنها أسست لمرحلةٍ ستتحقّق فيها أهدافٌ هائلة في المديين القريب والمتوسط.
 

الأرجح أنّ طاقم السلطة الفاسد نادمٌ على الأسلوب الذي تعاطى فيه مع الأزمة منذ 2017 وما قبل، وصولاً إلى التعاطي الاستعلائي والاستخفافي والقمعي مع انتفاضة الناس في خريف 2019.

 

للإيضاح، الفاسدون ليسوا نادمين على الموبقات التي ارتكبوها، أي سرقة المال العام والإمعان فيها وتقاسم الجبنة حتى «نشّف» البلد وسقط. فهذا الندم يفترض وجود ضمير عند الفاسدين. إنما يندم هؤلاء لأنّهم استرسلوا في الطمع، ولم يتوقّفوا عند حدّ معقول في ممارساتهم، على رغم إدراكهم أنّهم يقودون البلد إلى الهلاك.

 

لقد أقام نظام المفاسد تركيبة سياسية - طائفية - مالية - إدارية وقضائية يحمي أركانُها بعضُهم بعضاً، فيتقاسمون المغانم. وهم، لو اختلفوا عليها أحياناً فإنّهم سرعان ما يتوافقون. ولولا الطمع والمكابرة وقصر النظر لما انكشف هؤلاء بهذا الشكل.

 

مثلاً، لو استجاب طاقم السلطة لمتطلبات «سيدر» 2018 الإصلاحية، وقد كانت متواضعة نسبياً، لكان لبنان حصل على 11 مليار دولار وربما مليارات أخرى من مانحين عرب وأجانب، وتأجَّل الانهيار سنوات أخرى عاشت خلالها هذه الطبقة سعيدة في جنّة السلطة.

 

ولولا سياسة التجاهل والاستخفاف والقمع التي مورست منذ 17 تشرين الأول، لما وصل الوضع إلى المأزق الكارثي الذي حذّر منه ذوو العقل الراجح. ففي الشهر الأول من الانتفاضة كان قرار المعالجة ممكناً بأدوات لبنانية فقط، ومن دون الاستعانة بالخارج.

 

وفي البديهيات مثلاً، كان ممكناً لأركان السلطة، بعد 17 تشرين، عدم التواطؤ في عملية تهريب مليارات الدولارات من القطاع المصرفي إلى الخارج، واعتماد الحدّ الأدنى من الترتيبات التي تؤجّل السقوط ظرفياً، ثم إقرار خطط إصلاحية هادئة تعيد الانتظام المالي والنقدي.

 

فرصة الشهر الأول أضاعتها السلطة بالاستقالة المسرحية للحكومة وبورقة الإصلاح المزوَّرة. وهكذا، أتيح المجال لاهتراء شامل، فتح الباب لدخول العامل الخارجي اضطرارياً على الخط. ومع دخول هذا العامل تدريجاً، كان يضمحلّ التأثير الداخلي. وهكذا، وصل الوضع في شباط إلى ما يشبه الاستسلام لصندوق النقد الدولي.

 

طبعاً، الجميع لا يريدون تجرُّع الكأس المرّة، لأنّ الصندوق سيضطر إلى كشف خبايا المال والمصارف والإدارة منذ سنوات، بل عشرات السنين، بما فيها من فضائح تكشف غالبية الطبقة النافذة. لكنهم عاجزون عن الرفض وليس أمامهم سبيل آخر.

 

ففي الواقع، على هؤلاء النافذين أن يختاروا: إما أن يسقطوا من دون الصندوق، ومعهم البلد كله، وإما أن يسقطوا بالصندوق… هم وحدهم، ولكن بكلفة غالية جداً يدفعها البلد والناس.

 

الوحيد الذي يمكن أن يقول «لا» هو «حزب الله»، لأنّه يمتلك القدرة على أن يقولها. ولكن مشكلته تكمن في انخراطه التام في حماية الطبقة السياسية، ليس فقط منذ صفقة 2016، بل قبلها وبعدها. فعلى رغم خروج الرئيس سعد الحريري من هذه الصفقة، هي سقطت في الشكل لا في المضمون.

 

لذلك، ربما تكون الفوائد التي يمكن أن يجنيها «الحزب» من الرفض محدودة. إلّا إذا قرّر تغليب معيار المواجهة الإقليمية مع الولايات المتحدة وتجاوز الاعتبار اللبناني نهائياً. ففي هذه الحال، سيختار التعاطي مع الصندوق برمزيته السياسية، ويفتح معه مواجهة لا هوادة فيها ولا يمكن تقدير تبعاتها على مجمل الوضع ومستقبل لبنان.

 

وخيار المواجهة لا يستبعده بعض المحللين. ففي تقدير هؤلاء أنّ «الحزب» لن يتبنّى وجهة النظر «الاستسلامية» التي سيلتزمها بعض شركائه في الحكم والحكومة، عندما ينتقل لبنان من طلب المساعدة التقنية من الصندوق إلى طلب المساعدة المالية. وهذا الطلب باتت كل المعطيات ترجِّحه.

 

قد يغرِّد «الحزب» منفرداً في المواجهة، لأنّ من غير الواضح تقدير مدى التضامن الذي سيلقاه من شركائه في السلطة. فلكل منهم التزاماته وخصائص موقفه. وربما يتذكّر البعض مقولة لبنانية قديمة هي: «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»! وسيفكّر كثيرون أين هي رؤوسهم فعلاً وأي مكان هو الأقدر على حفظها: عند «الحزب» أو عند سواه؟

 

قد يعود «الحزب» إلى التأمّل في النصائح التي تلقّاها، خصوصاً بعد الانتفاضة، بأن يترك الطاقم السياسي الغارق في فساده ويعقد الصفقة الجديدة، التاريخية، مع الناس في الانتفاضة. ويكون الإصلاح هو البرنامج الوحيد المعتمد، وليس أي برنامج خارجي يخشاه «الحزب».

 

وقد يدفع «الحزب» ثمن التزامه بعض بنود الإصلاح والشفافية التي يحتاج إليها لتمويل نفسه، لكن هذا الثمن يبقى أصغر عليه من ثمن الاستسلام للقوى والمؤسسات الخارجية.

 

أياً يكن الأمر، فالجميع تأخّر كثيراً، وأضاع الوقت في محاولات التجاهل والاستيعاب والقمع. والوقائع الجديدة ستفرض نفسها على الأرض في المرحلة المقبلة.

 

وعلى الأرجح، إنّ صندوق النقد الدولي الذي سيرعى إعادة الهيكلة المالية والمصرفية والإدارية، سيكتشف أن لا مجال لإنجاح مهمته إلّا بإعادة الهيكلة السياسية. وستتأرجح ردّة فعل القوى النافذة بين الصدام والصدمة. وسيكون هذا الاستحقاق أكثر من مصيري للبنان الدولة والكيان.