إنّ نجاح حكومة الرئيس حسان دياب يؤدي إلى ترجيح كفة حكومات التكنوقراط على الحكومات السياسية، وتحديداً حكومات الوحدة الوطنية.
 

من المفيد مراجعة الأسباب الموجبة التي قدمها «حزب الله» رفضاً لحكومة التكنوقراط قبل ان يعود ويوافق عليها، ولو بصيغة غير مستقلين، حيث أعلن بداية الأمر رفضه المطلق لها بحجة انّ النزاع الدائر في المنطقة يتطلّب وجود حكومة سياسية قادرة على تظهير موقف لبنان الخارجي والتصدي لأي مواجهة مع إسرائيل وتتمتع بجهوزية لمواكبة اي طارئ، وذلك في موازاة وجهة النظر التقليدية التي تقول انّ سلطة القرار في البلد انتقلت مع «اتفاق الطائف» إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وبالتالي الوزير يجب ان يكون سياسياً بالدرجة الأولى خصوصاً انّ الحكومات تتألف وفق التوازنات النيابية.

 

وفي موازاة هذا الرأي، لا يمكن القفز فوق أربع حقائق أساسية:

ـ الحقيقة الأولى، انّ حكومات الوحدة الوطنية فشلت فشلاً ذريعاً وباعتراف الجميع تقريباً، ويتفق أهل «الطائف» على اعتبار انّ الحكومة الأولى في الدستور الجديد فقط لا غير كان يجب ان تكون وحدوية على خلفية إشراك وتوحيد القوى التي تقاتلت وتخاصمت، ما يعني انّ حكومة الوحدة الوطنية وفق «الطائف» هي استثناء، ولكنها تحولت قاعدة لأنّ النظام السوري كان يريد ان يلعب دور ضابط الإيقاع ووضع كل فريق في مواجهة الآخر، واستمر هذا الوضع بعد العام 2005 بسبب الانقسام بين 8 و14 آذار والخشية المتبادلة من تسليم دفة السلطة لفريق من الفريقين.

ـ الحقيقة الثانية انه لم يكن ممكناً الكلام عن موالاة ومعارضة في زمن الوصاية السورية، في اعتبار انّ سلطة القرار الفعلية كانت في دمشق لا بيروت. وبعد العام 2005 افتقدت 8 آذار التمثيل السني و14 آذار التمثيل الشيعي، الأمر الذي أبقى سيف الجانب الميثاقي مرفوعاً على تشكيل حكومة غير مكتملة المواصفات الميثاقية، وبمعزل عن هذا الجانب الذي استخدمه «حزب الله» فإنه لم يكن في وارد الخروج من الحكومة، بدليل تراجعه عن تعهّد السيّد حسن نصرالله نفسه عندما أعلن فليحكم الفائز في انتخابات العام 2009، وسرعان ما عاد وأسقط حكومة الرئيس سعد الحريري ليحكم منفرداً في حكومة غير مكتملة التمثيل السني.

 

فالحزب لم يكن مستعداً الدخول في تجربة موالاة ومعارضة لأنه يعتبر انّ وجوده في السلطة يشكل ضماناً لسلاحه ودوره، ولولا الأزمة المالية وفشله في تشكيل حكومة تكنو- سياسية واضطراره إلى التسليم بالأمر الواقع لَما وافق على حكومة دياب في صيغتها الحالية، وهذا ما يفسّر دعوته إلى تشكيل لجنة من الموالاة والمعارضة في عودة صريحة إلى صيغة حكومات الوحدة الوطنية وفي محاولة متأخرة لتجنّب تحمُّل مسؤولية الانهيار منفرداً، حيث من الواضح انه يتهيّب اللحظة والمرحلة ويريد بطريقة أو بأخرى إشراك الجميع للخروج منها، علماً انه لا يستطيع ان يُمسك بزمام السلطة التنفيذية ويطلب من الآخرين تغطيته، فيما كان في استطاعته الذهاب إلى خيار حكومة اختصاصيين مستقلين تحظى بغطاء مختلف القوى السياسية.

 

ـ الحقيقة الثالثة، انّ الناس المنتفضة في الشارع أعلنت جهاراً رفضها حكومات الوحدة الوطنية وحتى حكومة التكنوقراط التي تقاسمت قوى الأكثرية حصصها، وأي حكومة على الطريقة القديمة ستواجه بشراسة شعبية، وهذا ما دفع قوى الأكثرية إلى تجنّب تسمية شخصيات سياسية والالتزام بأسماء تكنوقراط وغير مستفزة، والإيحاء أن لا علاقة لها بالحكومة لكي لا تتحمّل تبعات فشلها، خصوصاً انّ الناس تحمِّل القوى الممسكة بالسلطة مسؤولية إيصال البلد إلى ما وصل إليه.

ـ الحقيقة الرابعة، انّ الأزمة المالية غير المسبوقة في تاريخ لبنان تستدعي معالجة غير مسبوقة منذ «اتفاق الطائف» إلى اليوم، وتتمثل بتغيير شكل الحكومة والإتيان بأصحاب الاختصاص كعامل ثقة للداخل والخارج وفي محاولة للانكباب جديّاً على معالجة الأزمة من أجل إعادة الوضع الى السكة الصحيحة.

 

وتأسيساً على كل ذلك، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو نجحت حكومة دياب في إخراج لبنان من أزمته المالية، فهل تتحول قاعدة في تأليف الحكومات أم ستكون مجرد استثناء وستعود «حليمة إلى عادتها القديمة»؟ ولماذا الفصل بين الجانب السياسي والجانب المالي والاقتصادي والتقني الذي نجح في حكومة دياب لا يمكن ان ينجح وينسحب على تشكيل كل الحكومات اللاحقة؟

 

لا شك في انّ نجاح هذه الحكومة سيؤدي تلقائياً إلى ولادة أعراف جديدة في تأليف الحكومات، وأبرزها اعتماد أصحاب الاختصاص وفصل السياسة عن الاقتصاد والتأسيس لمنطق الموالاة والمعارضة، خصوصاً انّ الأزمات السياسية لن تنتهي في لبنان والرهان على إنهاء الانقسامات العمودية والوصول إلى وحدة موقف سياسي هو وَهم ما بعده وَهم، لأنّ الانقسام بدأ قبل العام 1969 وما زال مستمراً، والحقبات التي كان فيها اللبنانيون غير منقسمين قصيرة جداً مقارنة بحقبات انقسامهم، كما انّ الرهان على حسم الموقف بالقوة هو أيضاً وهم ولا يبني استقراراً، فيما الحلّ الوحيد يبقى وحتى إشعار آخر في فصل السياسة عن الاقتصاد، خصوصاً انّ المزاوجة بينهما أدت إلى انهيار لبنان.

 

ولا يشكل هذا النموذج إلغاءً للحياة السياسية التي ستنتقل إلى قاعة البرلمان والإعلام، ولكن لا يجوز تفقير الشعب اللبناني بسبب نزاعات سياسية لن تنتهي، كما انّ قوة هذا النموذج ستكون متأتية من الناس التي دخلت بقوة على المشهد السياسي بعد 17 تشرين الأول وستترجم دخولها في الانتخابات النيابية كقوة ضغط و»بيضة قبّان» لم تعد في وارد التهاون على حساب مصالحها ووجودها واستمرارها في هذا البلد، فضلاً عن انّ نجاح الفصل داخل السلطة التنفيذية بين السياسي والمالي سيعيد ترميم علاقات لبنان الخارجية ويحوِّل «النأي بالنفس» أمراً واقعاً ويعيد توحيد اللبنانيين من الباب المالي والاقتصادي والمعيشي، فيكون ما تعذّر تحقيقه في السياسة نجح الاقتصاد.

 

وقد تتحول حكومات التكنوقراط قاعدة وقد لا تتحول في ظل ممانعة قوى تريد الإمساك بالوزارات لمنافع زبائنية، ولكن الأكيد أن لا عودة في المشهد السياسي إلى ما قبل 17 تشرين الاول، وحكومة التكنوقراط هي أحد وجوه التغيير الذي سيكتمل فصولاً رويداً رويداً...