بين طريقين في آخر أحدهما نافذة إنفراج، وإن كانت ضيّقة، والوصول اليها دونه مطبات وصعوبات وتجاوز عوامل سياسية شديدة التعقيد، واما الطريق الثاني فيقود الى هاوية اقتصادية - مالية - سياسية، اي الى السقوط النهائي، من الطبيعي ان يقع الاختيار على سلوك الطريق الأول.
 

لبنان، القت به أزمته الاقتصادية والمالية على المفترق بين هذين الطريقين، اي بين السيّئ والأسوأ، وكل مكوناته، بدءًا من الحراك حتى آخر موقع في السلطة، لا تستطيع ان تنكر انّها في حالة إرباك موصوف، لا يملك اي منها خريطة تطبيقية لمجموعة العناوين والشعارات التي تطرحها.

 

فالحراك، يبدو انّه بلغ مرحلة الدوران حول النفس، وكأنّه انكفأ الى الخلف، ما خلا تحرّكات تذكيرية بأنّه ما زال موجودًا، تقوم بها مجموعات متفرقة بين الحين والآخر، وبزخم خافت، لا يُقارن بحراك الايام الاولى منذ 17 تشرين الاول 2019، والوهج الذي لبسه في تلك الفترة.

 

اما الحكومة، فليست في وضع افضل، بين السيّئ والاسوأ قرّرت منذ نيلها ثقة المجلس النيابي، ان تتوجّه نحو نافذة الإنفراج، الّا انّ حظها العاثر، صدمها، في مطلع ولاية حكمها، بأزمة سندات «اليوروبوندز»، وأوقعها في حالة الضياع السائدة حاليًا بين خياري إعادة هيكلة او جدولة الديون، او إعلان التخلّف عن الدفع. وخطورة هذا الضياع، انّه يبدو سيكون عنوان المرحلة الحالية المفتوحة على سيناريوهات كارثية، اقلّها الانهيار الاقتصادي والانفجار الاجتماعي، وأخطرها تفكّك النظام الذي أفرزه اتفاق الطائف لصالح «نظام جديد» يُخشى ان يفقد فيه الكيان اللبناني وحدته!

 

تعوّل الحكومة، على «الفتوى» الذي سيبديها وفد صندوق النقد الدولي حول موضوع سندات «اليوروبوندز»، وتأمل أن تأتي هذه الفتوى بالشكل الذي يؤمّن للحكومة التغطية لأن تخرج من حالة الضياع وتتخذ قرارًا في شأنها يلبي المصلحة اللبنانية قبل كل شيء، ويتيح لها بالتالي الإنتقال الى «المعركة الكبرى» التي سمّتها «مواجهة التحدّيات». والواضح حتى الآن، من اجواء المحادثات التي تجري مع وفد صندوق النقد، انّ التوجّه هو الى تأجيل سداد السندات، إلّا اذا طرأ ما لم يكن في الحسبان، ووجدت الحكومة نفسها امام «فتوى» إلزامية بالدفع!

 

واضحٌ انّ قضية السندات، مسألة عابرة بسلبياتها او إيجاباتها، الّا انّ السؤال الذي يرتسم امام الحكومة: كيف ستعبر الحكومة في اتجاه خوض معركتها الإصلاحية، في ظلّ الانقسام السياسي حولها، واي إصلاحات ستتمكن من تحقيقها في ظلّ وضع سياسي مأزوم، بدأت نذر توتره تتصاعد اكثر مما كانت عليه في السابق؟ وفي ظلّ محاولات جهات سياسية متعدّدة، امّا لإبقاء النهج القديم المسبّب للأزمة، وامّا تضليلها لكي تدور اكثر فأكثر حول نفسها الى أن تفقد وجهتها، او لدفعها مباشرة في اتجاه سلوك طريق الهاوية؟

 

بالتأكيد، انّ نجاح اي معركة اصلاحية، يتطلب حداً اعلى من التوافق عليها والشراكة السياسية فيها، ووضعًا سياسيًا ينعم بشيء من الاستقرار، وهو امر لا ينطبق على الوضع السائد حاليًا.

 

فمعركة الحكومة لـ«مواجهة التحدّيات»، سبقتها معارك سياسية محتدمة في اتجاهات مختلفة، وتحت عناوين مختلفة، وبقدر ما انّ احتدامها يحرّف اولويات البلد في اتجاه حصر تداعياتها، فإنّ كل هذه المعارك، مضافًا اليها «سوء التفاهم» بين مكونات اللون الواحد التي ألّفت الحكومة، من شأنها ان تزيد من حالة الضياع لدى هذه الحكومة، ويكبّل يديها اكثر، ويحبط سعيها لأن تحقق انجازًا سريعًا يُسجّل لها في هذه الفترة، تثبت من خلاله انّها بلونها التكنوقراطي تمتلك القدرة على الإنجاز.

 

وكما هو واضح، فإنّ الجبهات متعددة، بدءاً بالمعركة الدائمة على كلّ شيء بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وكذلك المعركة السياسية المفتوحة محليًا واقليميًا بين «القوات» و«حزب الله»، وايضًا معركة «الطلاق المؤخّر» بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل» وإعدام التسوية السياسية التي جاءت بالعماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وصولًا الى المعركة غير المسبوقة في توترها بين «التيار الوطني الحر» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي اعلن رئيسه وليد جنبلاط انّ معركته ليست مع التيار فقط بل مع عهد الرئيس عون، الذي وصل الى أفق مسدود ولا بدّ من التغيير.

 

على انّ اللافت للانتباه، انّ المعارك تُفتح، وكأنّ مداورة تحصل في هذا السياق. فبالأمس القريب، مناوشات بين «التيار» و«القوات»، وقبل ايام «سجال الطلاق» بين «التيار» و«المستقبل»، وامس، احتدمت على خط «التيار» و«الاشتراكي» وعلى نحو يوحي بأنّ الطرفين باتا محكومين بالصدام السياسي الحتمي بينهما، والذي بالتأكيد هو صدام بمفعول رجعي يعود الى سنوات طويلة من «اللاتفاهم» بينهما. ومن يرصد ما يتبادله الطرفان على مواقع التواصل الاجتماعي، من شتائم و»كلام من تحت الزنار»، يفترض انّ الامور ذهبت بينهم الى نقطة اللارجوع. وهو ما عبّر عنه الاشتباك بينهما يوم امس.

 

وهذا ما تؤكّده اوساط الطرفين، اللذين يتفقان على انّ العلاقة مقطوعة بالكامل بينهما، ولا أمل بإعادة مدّ الجسور بينهما. فالاشتراكي يعتبر «انّ التيار يعتقد نفسه منذ بداية عهد عون انّه في لحظة تاريخية يريد ان يستغلّها للتحكّم بالبلد كيفما شاء، ويحاول ان ينزّه نفسه عن كل الخطايا التي ارتكبها، وكعادته يهرب من مسؤوليته في خراب البلد نحو افتعال توترات. وسبق لنا ان اكّدنا انّ الصدام العنفي لا نريده، لكنكم لا تستطيعون ان تأتوا الى بيت وليد جنبلاط لتحاصروه، فكما انّ للقصر الجمهوري حصانته، هناك بيوت اخرى لها حصانتها ولا تستطيعون بل لن تستطيعوا ان تنتهكوها وتستبيحوها».

 

في المقابل، يعتبر التيار نفسه مستهدفًا من قِبل الحزب الاشتراكي» الذي «يحاول ان يتنصّل من شراكته في كل الأزمة الحاصلة ويرميها على الآخرين، وركب الحراك وقدّم نفسه قديسًا، فضلًا عن انّه لم يخفِ موقفه من معارضة عهد الرئيس عون والدعوة الى تغييره، هكذا بكل بساطة، يبدو انّ الاشتراكيين دخلوا في مرحلة عدم توازن، لا بل تموضعوا في مكان آخر، ولا نستبعد ان تكون لحركة الاشتراكي ضدّ العهد أبعادها الخارجية، على خلفية الصراعات الاقليمية، ولا نستبعد ابدًا ان يكون هجومه على رئيس الجمهورية، تغطية لهجومه غير المعلن على «حزب الله». وفي اي حال، هم قرّروا ان يضربوا رؤوسهم بالحائط، فحائطنا صلب والعهد لن يتأثر».