من المجدي بل المطلوب، إعادة إنتاج تسوية، وعلى رأسها ان تكون سيادة الدولة غير منقوصة، تتضمن التسوية الاستجابة للأساسي والداهم من المطالب الشعبية، وهذه يمكن تلخيصها في الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي.
 

منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، دخلت البلاد منعطفاً جديداً على المستويات الإقتصادية والمالية والإجتماعية والسياسية، دفعت بالبعض إلى طرح الكثير من السيناريوهات المستقبلية التي لم تصل إلى أساس المشكلة القائمة، من الذهاب إلى البحث في الصيغة القائمة منذ إتفاق الطائف إلى الدعوة لإنتخابات نيابية مبكرة تقود لاحقاً إلى إنتخابات رئاسية مبكرة وتشكيل حكومة جديدة.

 

كل هذه السيناريوهات تتوقف عند أمر جوهري لا يتم التطرق إليه، منذ تاريخ إستقالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، هو، من يتخذ القرار في البلاد وما هو البرنامج المفترض تنفيذه للخروج أو إدارة الأزمة الراهنة، وبالتالي ما الذي يجب القيام به بأسرع ما يمكن لتفادي المزيد من الإنهيار الذي يدفع ثمنه المواطن اللبناني أولاً وأخيراً وبينما الوضع يزداد سوءاً تتكثف الاجتماعات الوزارية مع المؤسسات الدولية المعنية، والاجتماع المفصلي سيكون مع صندوق النقد الدولي.

 

يتجه لبنان الى خيار عدم دفع سندات اليوروبوند مقابل الدخول في مفاوضات جدية مع الدائنين ومع صندوق النقد لأجل العمل على وضع خطة إصلاح واضحة وشاملة وجدية تبدأ سريعاً. هذه الخطة التي تجمع عليها القوى الدولية المختلفة، يمكن أن تبدأ بشكل سريع من قطاع الكهرباء. أصبحت كل الدول المهتمة بالشأن اللبناني على دراية بحكاية إبريق زيت الكهرباء، وهم لا يعرفون فقط حاجة لبنان لإنتاج الطاقة، بل ربما دخلوا في كل التفاصيل، وسط لامبالاة لبنانية غريبة ومريبة.

 

ملفات داخلية وخارجية تطبق بخناقها على الواقع اللبناني، ولغاية الساعة ما من خطوة جدية وعملية سريعة من أي جهة سياسية في السلطة باتجاه فتح كوة في جدار الازمة، وذلك ليس لأن الحلول مستحيلة أو حتى صعبة، ولكن لأنه لا توجد ارادة حقيقة لايجاد حل يوقف نزف البلاد والعباد. 


بالطبع هذا المشهد على ظاهره يشير الى أن الازمة الاساسية في لبنان هي أزمة مالية واقتصادية نتيجة عدة عوامل وأسباب في ظل السياسات الخاطئة التي انتُهجت في العهود السابقة، إلا أن ما يحمله باطنه هو اخطر. لان القوى السياسية ما زالت مستمرة في سياسة إنكارها عبر الدفع بالازمة الاقتصادية الى المزيد من التأزم والانهيار. وهذه الحقيقة يمكن قراءتها من ملفات عدة يقف مستقبل لبنان على ثلاثة منها، وهي: ملف انتخابات رئاسة الجمهورية ، والملف السوري ومدى تأثيره على لبنان  ، والملف الثالث هو ملف ترسيم الحدود والتنقيب عن النفط  قد يكون السؤال ما هو الرابط بين هذه الملفات والازمة الاقتصادية والمالية التي يعانيها البلد. 

 

إقرأ أيضًا: الحكومة بين المطرقة الامريكية والسندان الايراني

 

لا شك في أن تطورات عدة حصلت مؤخراً في المنطقة اخلّت نوعاً في ميزان التوازن بين القوى الكبرى، هذا عدا عن أن التفاوض في ما بينها لم يسجل أي خرق ولو بسيط حتى اليوم، من هنا يبدو أنه بات لزاماً على بعض القوى اللعب خارج اطار طاولة التفاوض عبر شد القبضة على الخاصرة الرخوة في المنطقة بالسبل الممكنة. لذلك فإن ما يحصل في لبنان حالياً ليس سوى عملية اضعاف مقصودة حد الايصال به الى مرحلة فقدان الاهلية لتسهيل تطييعه والتحكم به وتجريده حتى من القدرة على المواجهة، وذلك من قبل جهة سياسية واحدة فقط دافعة لبنان في بزار تفاوض على اوراق الملفات الثلاثة المذكورة مقابل تحصينه اقتصادياً ضامنة في آن الربح باعتبار أن استقرار لبنان هو حاجة دولية . 

 

من هنا يمكن القول أن ما يعيشه لبنان ليس ازمة اقتصادية ومالية فقط وانما حرب سياسية تدفع به نحو مسار معين في ظل غياب الارادة الحقيقية والواضحة للحل. فالحل موجود وممكن وفي حال اجتمعت القوى السياسية على اتخاذ قرار بحل سريع وجدي لملف واحد فقط، على سبيل المثال ملف الكهرباء،لاستطاعت السلطة استعادة ثقة الشارع ومن بعده المجتمع الدولي، ولعادت الروح الى الشرايين الاقتصادية والمالية للبلد ليس في غضون اشهر وانما في غضون أسابيع . لكن في ظل التركيبة الحالية، يوجد شبه إجماع على غياب أيّ توافق بين القوى السياسية الأساسية على أيّ قرار، حتى بالنسبة إلى الحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب التي تقترب من اللون الواحد، نظراً إلى أن الأخيرة لن تكون قادرة على القيام بأي مبادرة فعلية من دون توفر الحد الأدنى من الإستقرار السياسي، وهو ما طالب به أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه السابق. هذه مواقف التفافية، أي مواجهة المضمون بمناورة واسعة، أي تغليف الهدف الأصلي بأغطية تتناسب ألوانها مع محيطها، بحيث لا ينتبه الخصم إليها، وهذا درسٌ من دروس تكتيك العلوم العسكرية ، حيث المفاجأة والتمهيد لها، عاملان حاسمان للفوز في المعركة. لكن التكتيك العسكري في مقام المعركة السياسية والاجتماعية غير مناسب وغير مفيد أيضاً في الدلالة على المرض، للاسهام في تقديم العلاج، لذلك كان وما زال مطلوباً الذهاب إلى أساس الموضوع، أو أساساته ، في الظرف اللبناني الحالي، الذي هو تجاوز لمنطوق سيادة الدولة لمصلحة قوى داخلية لها واقعها الخاص .الامر الذي لا يمكن ان تستقيم الامور مهما كانت الحلول صحيحة وايجابية .

 

ختاماً الوضع دقيق وخطير، هذا معلوم، والغضب الشعبي عالي الوتيرة، هذا معروف، وما هو ملموس هذا التحرك الشعبي الذي ملأ الشوارع والساحات منذ اربعة أشهر، ومع هذا التحرك من المجدي والمطلوب، إعادة إنتاج تسوية،وعلى رأسها ان تكون سيادة الدولة غير منقوصة، تتضمن التسوية الاستجابة للأساسي والداهم من المطالب الشعبية، وهذه يمكن تلخيصها في الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي.