على عكس ما يردّد البعض فإنّ رئيس الحكومة حسان دياب لم يطرق باب أي دولة عربية أو خليجية رسمياً حتى اليوم. فهو يحتسب لهذه الخطوة ألف حساب. فالأجواء لا توحي أنها ستحقق ما يريده لبنان في ظل الأزمة التي تعصف به، ورغم الحاجة الى الدعم العربي. ولذلك، ما الذي يعوق مثل هذه المبادرة؟ وما الذي يدعو دياب الى التريّث؟
 

منذ أن دخل دياب الى السراي الحكومي شعر بثقل الحمل الذي ألقي على منكبيه. وزادت وطأته بعدما باشر مهماته متمتّعاً بكل المواصفات الدستورية لحكومته عقب نيلها الثقة النيابية، ساعياً الى مواجهة الأزمات التي يعيشها لبنان وأثقلها ما فرضته استحقاقات دفع قيمة «سندات اليوروبوند» التي تستحق الدفعة الأولى منها لهذه السنة في آذار المقبل بقيمة مليار و200 مليون دولار، قبل ان تستحق دفعة نيسان بـ 700 مليون وحزيران بـ 600 مليون أخرى.

 

لا تقف الأمور في حسابات دياب عند معضلة سندات اليوروبوند، فاستحقاق كلفة الدين العام وتوفير ما تتطلبه القطاعات الحيوية الاقتصادية والمعيشية من «الدولار المدعوم» بدأت تتعثر وتبتعد. فأمامه، بدءاً من أمس، مشكلة تنفيذ التفاهم الذي عقده قبل نيله ثقة مجلس النواب مع نقابة أصحاب محطات المحروقات لتسوية الخلاف القائم حول طريقة توزيع الخسائر الناجمة عن تعميم مصرف لبنان الذي أبقى 15 % من قيمة المحروقات بالدولار الأميركي «غير المدعوم»، والتي ألقيت بكاملها على عاتق أصحاب المحطات على رغم التفاهم على أن تكون هذه الخسائر موزّعة بالتساوي بينها ومعها الدولة والشركات المستوردة للمحروقات.

 

ولذلك، يسعى دياب ومعه وزير الطاقة ونقابة أصحاب المحطات الى وضع جدول جديد للاسعار حددت النقابة خطوطه العريضة، ليلحظ وقف الخسائر اللاحقة بأعضائها الذين يطالبون باستعادة حقهم في فارق الجعالة من صفيحة البنزين، في وقت لا يبدو انّ أصحاب الشركات المستوردة للنفط مستعدة لتحَمّل ما عليها من مسؤولية في هذا الاتفاق وتقاسم الأعباء والخسائر الآنفة الذكر.

 

والى هذه المعضلات، يرى دياب ومعه فريق عمله انه أمام مواجهة صعبة لملاحقة التلاعب بأسعار المواد الاستهلاكية التي ارتفعت بنسب تفوق بكثير الفارق بين الدولار المتوافر لدى المصارف ومصرف لبنان وذلك المعروض في سوق الصيارفة الشرعي وغير الشرعي، تداركاً لأزمة حقيقية قد تتحول من جرّائها الانتفاضة الشعبية القائمة اليوم لأسباب ربما سياسية او دستورية قريباً الى «ثورة جياع» حقيقية بلا مبالغة.

 

وهي ثورة لا يمكن القوى العسكرية والأمنية ان تواجهها إن لم تر هذه الأجهزة العسكرية نفسها أنها باتت الى جانبهم. فهم، ضبّاطاً وعناصر، يعيشون في البلد عينه وما يعانيه المدنيون يعاني مثله العسكريون في مختلف الأجهزة وعلى مختلف المستويات.

 

ما تواجهه الحكومة الجديدة من استحقاقات هو كبير، في وقت تفتقر الى أبسط عدة للمواجهة. فقد اكتشف دياب ومعه معاونوه ومستشاروه منذ دخوله الى السراي الحكومي انه تسلّم خزينة شبه خاوية. وهددت الأزمات المتلاحقة المبالغ التي كان من المتوقع جبايتها من الجمارك، نتيجة تعثّر الشركات المستوردة وعدم قدرة اللبنانيين على إيفاء الحد الأدنى من الرسوم والضرائب التي فرضتها القوانين السابقة، كما بالنسبة الى كلفة الخدمات العامة والشؤون الصحية نتيجة فقدان أموال المستشفيات ومستحقاتها ومخاوف جدية من إفلاس الضمان الاجتماعي، وتوقف تقديمات تعاونية الموظفين للمنتسبين إليها، وتعثر المقترضين نتيجة الأزمة التي أرهقت كاهل العائلات التي ترك معيلوها أعمالهم أو فقدوا وظائفهم وتَدنّت رواتبهم التي هدر ارتفاع الأسعار وفقدان القوة الشرائية لليرة جزءاً منها.

 

وإزاء هذه الوقائع التي لا يمكن التشكيك بها وبانعكاساتها الخطيرة، تبقى أمام الحكومة معضلة هي الأصعب والأكثر تعقيداً في اعتبارها مسألة سياسية. وهي باتت محصورة بنزع التهمة بأنها حكومة «حزب الله»، وهي الشعرة التي قطعت كل خطوط التواصل مع الخارج. فالجميع بات يطالب بالاصلاحات وباعتماد سياسة «النأي بالنفس»، وباتَ «حزب الله» مطالباً اكثر من أي وقت مضى بوقف تدخلاته في سوريا واليمن والسعودية والبحرين والعراق قبل ان تستعيد خطوط التواصل الخارجية حرارتها.

 

والدليل على قساوة المعركة المفروضة ظهرَ واضحاً من خلال دعوة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أمس الأول الى وقف «التحريض» على الحكومة في الخارج بتهمة انها «حكومة حزب الله». ومع حرصه على رفض «صيت لا يريده»، ففي موقفه اعتراف مُبَطّن وقاس بخطورة ردات الفعل الدولية على سياساته، وأثمانها، وأقلها الحصار المفروض على لبنان وحكومته.

 

وقد يأتي صندوق النقد الدولي قريباً لينصح بفرض سلة جديدة من الضرائب والرسوم والاقتطاعات من حجم الخدمات الاضافية للموظفين والمتقاعدين، ورفع كلفة الخدمات العامة ليزيد في الطين بلة. وهو ما سيقود حكماً الى انفجار شعبي غير مسبوق.

 

والبديل المتوقّع في هذه الحال هو مزيد من التدهور نتيجة الشروط الدولية لدعم الحكومة وفك الحصار الخارجي، والذي باتَ تخفيفه او وقفه رهناً بتعديل مطلوب من «حزب الله» وليس من أي طرف آخر. وهو أمر يؤرق رئيس الحكومة وعدد من الوزراء الذين يتعاطون مع الخارج.

 

واذا كان دياب ما زال يخفي هذا الشعور في سرّه أو أي من فريقه الوزاري حتى اللحظة، فهو يتلمّس بجد حجم المخاطر التي تجعله متريّثاً في طلب مواعيد لزيارات خارجية وبالدعم المالي المطلوب. طالما أنّ ما يحتاجه غير متوافر في لبنان، ومن الصعب تأمينه في ظل الحصار السياسي والديبلوماسي المضروب والانكماش الاقتصادي الذي بلغ حدود الشلل.

 

وعليه، يبقى واضحاً انّ الحكومة أمام مأزق ليس سهلاً تجاوزه او خرقه، وربما سيكون السعي الى تطبيق الاصلاحات المقترحة والتي ستقول بما لا يتحمّله اللبنانيون المُنهكون أصعب وأدهى وأقسى مما يتوقعه أحد، وإلّا فإنّ الأمور ستبقى متروكة على عواهنها. ومن يعش ير.