الحراك الشعبي لم يدرك بعد أن نسف العملية السياسية الحالية أمر غير متاح وغير مقبول، لا من النظام الإيراني ولا من المجتمع الدولي الذي تقوده أميركا.
 

باستعراض الوقائع الحاصلة في الحالة العراقية الراهنة الملتهبة المتعثرة المبعثرة، يمكن اكتشاف أن شلة الحكم وجبهة المعارضة التشرينية، معا، لم تُشخصا، رغم كل الدم الذي سال، حقيقة الموقف بواقعية، ولا يبدو أنهما سوف تتصرفان بما تسمح به العوامل الثابتة التي لا يمكن تغييرها الآن، كما لا يمكن إغفالها.

 

أول الثوابت في واقع الحال العراقي، منذ الغزو الأميركي ثم الاحتلال الإيراني، هو أن إيران وأميركا تتقاسمان الحل والربط في العراق، إما مباشرة أو بالواسطة، وأن النظام الأميركي والنظام الإيراني لا يستطيعان تحمل كلفة خسارة العراق كموقع ومصدر رزق، وذلك بحكم ضرورات سياسية وعسكرية وأمنية لا يمكن التسامح فيها أو التنازل عنها، أيا كان الثمن، وأيا كانت الظروف.

 

فخروج النظام الإيراني من العراق، بعد سقوط أحزابه وميليشياته، خصوصا في هذه المرحلة الصعبة، التي وضعته فيها عقوبات ترامب، يعني خروجه لاحقا من سوريا، ثم من لبنان، ثم من اليمن، وأخيرا من إيران ذاتها.

والشيء نفسه لأميركا، وخاصة في المدة القصيرة التي تسبق الانتخابات الجديدة، واحتياج الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التهدئة في الداخل والخارج، معا، بعد خروجه غير الكامل من دائرة الخطر الذي أحاطه، وما زال يحيطه بها، خصومه الديمقراطيون.

والآن ندخل إلى ملف رئاسة الوزراء العراقية ونتحدث بصراحة ووضوح. فمنذ نهاية وزارة إياد علاوي المؤقتة، وحتى نهاية عادل عبدالمهدي، لم يملك أي رئيس وزراء عراقي من أمره إلا القليل، ولم يجرؤ أحد على فعل أكثر مما هو مسموح له أن يفعل من قبل السفارتين الحاكمتين، خلافا لما هو مرئيٌ وظاهر وموهوم.

وحين يفشل رئيس الوزراء العراقي في ترضية إحدى السفارتين يصبح رحيله أمرا لازما وحاسما. وهذا ما جرى لإبراهيم الجعفري، ثم لنوري المالكي، ثم لحيدر العبادي، وأخيرا لعادل عبدالمهدي.

وهو نفسه الحاصل في إقليم كردستان، وإن بدا غير ذلك. فالشعب الكردي محشور بين مطرقة الاتحاد الوطني (الإيراني) والديمقراطي (الأميركي)، ولا فكاك من هذه الخنقة رغم كل ما يقال عن انتخابات ومحاصصات، ليست سوى مسرحيات مطلوبة للتمويه.

 

ومن هذه النقطة بالذات يصبح أيٌ من طرفي الصراع المحتدم، وهما جبهة المتظاهرين وشلة السلطة، حتى من قبل انتفاضة تشرين، عاجزا عن إدراك حدود الحركة الممكنة، ومقدار القدرة على الفعل وصياغة تحركاته وأحلامه بما يمكن تنفيذه، وتقديم التنازل المطلوب من أجل ترك السفينة تجري لمُستقَرٍ لها، في انتظار ما يأتي به الغد المجهول.

 

وهنا ينبغي على الحراك الشعبي أن يدرك أن شلة السلطة، حتى لو توفرت لدى بعض قواها الفاعلة النيةُ الحسنة والرغبة في الاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين، فهي غير حرة في ذلك، ومحكومة بعدم الفعل الحقيقي المستقل.

الحراك الشعبي من جانبه، بتمسكه بمطالبه التعجيزية، لم يدرك بعدُ أن نسف العملية السياسية الحالية، برغم كل مآزقها وفشلها وخرابها وفسادها، أمرُ غير متاح وغير مقبول، لا من النظام الإيراني ولا من المجتمع الدولي، الذي تقوده أميركا، بكل تأكيد. وقد بلغه بكل تأكيد إعلان الحكومة الأميركية عن نيتها التعاون مع محمد علاوي، وكذلك أحزاب الإقليم وسنة الإمام الخميني.

 

فالحكومة ورئاسة الجمهورية والبرلمان وما بينها، في عراق ما بعد تشرين، هياكل عظمية واهية لا تحل ولا تربط. وحتى لو تم تغييرها، أو الإطاحة بها، كاملةً، فلن يتحقق ما تريده الجماهير من سحبٍ لسلاح الميليشيات، وتعديل للدستور، وتغيير للقوانين الفاشلة، وإجراءٍ لانتخابات مبكرة خالية من التزوير، ومحاسبةٍ للفاسدين، وإطلاقٍ للدورة الاقتصادية المعافاة والقادرة على تحقيق الحد الأدنى من إصلاح البنية التحتية وتشغيل العاطلين وتوفير الخدمات الضرورية وتحقيق الأمن والأمان للمواطنين.

 

هل تذكرون البهرجة التي كان يُزف بها كلُّ رئيس وزراء جديد، منذ العام 2005 وحتى اليوم؟ وكيف كان يُلبسه اللاعبون الكبار والصغار، من وراء الستار، ثياب البطل المغوار الآتي لقلب الأسود أبيض، والأحمر أخضر، وأنه المخول بتحويل العراق، بين ليلة وضحاها، إلى واحةِ أمنٍ ورخاء، وبلا حدود؟

وتعلمون كيف كان عاقبةُ كل واحد منهم، مع بقاء السيء أسوأ والفاسد أكثر فسادا، والفقر أشد وطأة وضراوة.

 

هذا الكلام بمناسبة ترشيح “المتظاهر” علاء الركابي لرئاسة الوزراء، بالضد من ترشيح محمد توفيق علاوي، مع العلم بأن كليهما، لن يُخرج الزير من البير، ولن يأتي بما لم تستطعه الأوائل.

فالحمّام سيبقى نفس الحمّام، والطاس نفس الطاس، حتى لو تحقق المستحيل وتولى رئاسة الوزارة محمد توفيق علاوي أو علاء الركابي، أو حتى طرزان.

بصيغة أخرى. إن شلة السلطة غبية. فهي بترشيحها علاوي تلعب لعبة مكشوفة خائبة محكومة بالفشل، لأنها لن ترضي المتظاهرين بأي حال من الأحوال.

 

والحراك الشعبي، بترشيحه أحد أبنائه يقع في المحذور ويفرغ ثورته من مضمونها العقلاني، ويُذهب تضحياته الجسيمة هباءً، ويجنح إلى غوغائية من نوع جديد.

أما الحل فليس سوى واحد من ثلاثة، إما أن يموت الوالي، أو يموت جحا، أو يموت الحمار.

 

لكن الأقرب إلى الواقع الملموس والمعقول، والأكثر قابليةً للتحقق في المدى القادم المنظور، هو أن يتوب الحاكم في طهران وينزع ثياب الشيطان ويرتدي ثياب الرحمن، أو يموت ويَلفه بعباءته وعمامته الشعب الإيراني المنكوب ويواريه التراب.

عندها سيعود العراق إلى أهله سالما غانما كما كان، لكن ولاية أميركية أخرى بثيابٍ وطنية زاهية، شيعية كردية سنية، لن تستر العورة، والعياذ بالله.