هنالك بعض الحقيقة في عبارة «حكم المصرف» والشعور السلبي الذي يشعر به المواطن تجاه المصارف، وصولاً الى حد شيطنة المصارف. ويقضي الواجب اليوم العمل مع المصارف لتغيير هذا الشعور وإعادة الثقة الى العلاقة بين المصارف والمودعين والزبائن، بعدما سقطت الحملات الاعلانية التي كانت توعد الزبائن بالمن والسلوى على غرار «معك مدى الحياة»، «نحقق أحلامك»، «نحمي مستقبلك» وأظرفها «راحة البال»، وغيرها.

 

ربما غاب عن بال مطلقي الحملات الإعلانية انّ السبيل الوحيد والمنطقي والعلمي لتعزيز الثقة هو «الشفافية المطلقة» في التعامل مع الزبائن والمودعين والعملاء، وهي قواعد عالمية يذكرها ايضاً قانون النقد والتسليف. واذا اعتُمدت تُسقط كثيراً من حجج الذين يطالبون بإسقاط «حكم المصرف».

 

المبدأ الاساسي هو معرفة السعر الحقيقي لأي سلعة، ويعتمد قانون النقد والتسليف وقانون حماية المستهلك على هذه النقطة الاساسية لمحاربة الغموض والفساد، وهذا لا يقتصر على المصارف، بل على كل سلعة وخدمة من التاجر الى اللحام والميكانيكي وسائق تاكسي المطار الخ، كلهم مطالبون بشفافية الاسعار، في مجتمع مبني على الغموض واصطياد الفرص لخداع المستهلك.

 

على المصارف ان تستشرف المستقبل وتغيّر سياساتها تجاه عملائها وتحرص «ان يبقى لها صديق»، وان تسعى لكسب الثقة الآن لتضمن المستقبل، تطبيقاً لشعاراتها وحملاتها الاعلانية.

 

انّ احد اهم النقاط التي تتطلب الشفافية هي عملية الفوائد، الكل يعرف ابتداء بالحاكم وانتهاءً بأصغر متعامل مع المصارف، أنّ نسب الفوائد والاحتساب وكل المصاريف يجب ان تكون واضحة وضوح الشمس وموقّع عليها من العميل، ويجب ان تشمل كل المصاريف دون استثناء، وترتكز على معدل الفائدة السنوية. أي، اذا استدان أحدهم 10 آلاف دولار ويريد ارجاعها بعد 365 يوماً، كيف سيرجعها بعد احتساب ألاعيب الحسابات وكلفة فتح الملف والطوابع وسعر المغلف وغيرها؟ اي بكلام آخر، من المفروض على المصرف ان يحدّد نسبة الفائدة وطريقة الاحتساب وما حولها وحواليها من مصاريف بطريقة واضحة وشاملة. يعني بعد 365 يوماً الـ10 آلاف تُدفع 11 الفاً اذا كانت نسبة الفائدة وكل ما حولها 10%، أما في لبنان فنوّقع على فائدة 10% ولكن في الحقيقة هي حوالى 12%.

 

يجب تطبيق الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة على معاملات المصارف كما المصرف المركزي. والمسؤولية هنا هي بإقامة علاقة تشاركية واضحة بين الدولة والقضاء والمصرف المركزي والناس. اذ تبيّن انّ القليل القليل من القضاة يملكون المعرفة العلمية مثلاً لطريقة احتساب الـAPR (Annual Percentage Rate) اي معدل الفائدة السنوية والـBRR (Beirut Reference Rate) أي معدل الفائدة المرجعي في بيروت. وهذه مبنية على معدل كلفة الدين في لبنان. ولكن اللافت في لبنان، انّها تجري دون رقابة من أحد، فلا المعادلات المستعملة لإجراء هذا الاحتساب شفافة وواضحة، ولا أحد يراقب اذا كانت المحاسبة وطريقة الاحتساب دقيقة. ولا بدّ من التذكير، انّه في البلدان الغربية، بريطانيا مثلاً، اكتُشف التلاعب بأرقام المعدل المرجعي وتمّ إلزام المصارف على دفع غرامات عالية بسبب التلاعب.

 

لقد قام مصرف لبنان بإنشاء وحدة حماية المستهلك، وهي تابعة للجنة الرقابة على المصارف، وهي تقوم بمتابعة فعالية الأنظمة والتجهيزات والرأسمال البشري لدى المصارف، بما يكفل التعاطي الشفاف مع الزبائن ويحسّن سمعة القطاع المصرفي. وألزم المصارف، في إطار تقديمها للخدمات والمنتجات المصرفية والمالية، بالعمل على تثقيف العملاء وتوضيح حقوقهم من خلال نشر برامج توعية وتأمين وصول المعلومات الدقيقة والواضحة حول المنتجات ومخاطرها. ولكن، لم نشهد أي عمل جدّي لهذه الوحدة ولم يعرف الكثيرون عنها، خاصة العملاء.

 

أخيراً وليس آخراً، وأبعد من الشفافية، اذا لم يتمّ خفض الفوائد على القروض بشكل جدّي، على ان لا يتعدّى الـ 20% من الفوائد التي تُدفع على الايداعات، سنشهد افلاسات بالمئات في لبنان وتوقفات عن الدفع، ومن مصلحة الجميع إعادة النظر والتوقف عن تسجيل فوائد، تعلم المصارف جيداً انّه من الصعب تسديدها.

 

وهنا نعود الى الإعلانات والشعارات، ونذكر انّه عندما تسجّل كل النشاطات الاقتصادية في لبنان خسارات كبيرة، يجب على القطاع المصرفي ان يتقبل ويفهم انّه يجب ان يشارك عملاءه ومودعيه الخسارة، لأنّه كان الشريك الأساس في الأرباح. فلا يجوز ان يهرب عندما تقع الخسارة. ومن الغريب ان يُصدر المصرف المركزي تعاميم لخفض الفوائد على الودائع ولا يلحظ في التعميم نفسه خفض الفوائد على القروض.

 

باختصار، على المصارف إجراء مراجعة جذرية وحقيقية وتغيير العقلية والسياسات لإعادة الثقة وإيقاف الشيطنة، والاهم التأسيس لعهد مصرفي جديد ينطلق من الشفافية المطلقة.