جاء خطاب الرئيس سعد الحريري في مناسبة 14 شباط مطابقاً لكل التوقعات، بأنّ جوهر كلامه تركّز ضد العهد، أكان تحت مسمّى الوزير جبران باسيل او التسوية الرئاسية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يتجّه الحريري إلى وضع خريطة طريق لخطابه أم أنّ مفعوله انتهى مع انتهاء المناسبة؟
 

أطلق رئيس تيار "المستقبل" جملة من المواقف السياسية المهمة، وختمها بأنّه سيبقى في بلده إلى جانب أهله وناسه وشعبه وتياره للعبور بلبنان إلى مرحلة أفضل، وقد تقصّد الإعلان عن ذلك لتبديد كل الإشاعات او الانطباعات عن أنّ خروجه من السلطة سيدفعه إلى الخروج من لبنان على غرار تجارب سابقة. ولكن الأساس يبقى في مدى عزم الحريري على المتابعة بالحماسة نفسها التي أظهرها في الخطاب، وما إذا كان في وارد ترجمته على أرض الواقع، في سياق خطة سياسية متكاملة يُفترض ان تندرج في ثلاثة عناوين أساسية:

 

- العنوان الأول، ترتيب تحالفاته السياسية والاستراتيجية منها، وخصوصاً علاقته مع "القوات اللبنانية" التي تحتاج إلى مراجعة شاملة لتنقيتها من الشوائب التي اعترتها في السنوات الماضية، وتحديدًا منذ التسوية الرئاسية، لأنّه مع خروجهما من الحكومة وفي ظلّ قراءتهما الموحّدة للعوامل المسببة لانهيار التسوية والأزمة القائمة، لا بدّ من فتح صفحة جديدة، ولكن على أسس جديدة ومختلفة، لا تنحصر بالتقاطع حول القضايا الكبرى المتصلة بالسيادة بل تشمل الإدارة الدولتية التي يوليها الناس و"القوات" أولوية قصوى، والشراكة في صنع القرارات على قاعدة التفهُّم والتفاهم.

 

وترتيب التحالفات بين الثلاثي تيار "المستقبل" و"القوات" والحزب التقدمي الإشتراكي، لا يعني إحياء جبهة 14 آذار. وإذا كان الظرف السياسي لا يسمح بإحياء أو إنشاء إطار جبهوي، فلا يعني انّ هذه المكونات يجب ان تكون مختلفة ومتباعدة. فلا يوجد مثلاً أي إطار جبهوي جامع لمكونات 8 آذار، ولكن ضابط إيقاع هذه القوى "حزب الله" يحافظ على أفضل تنسيق في ما بينها.

 

ومن هذا المنطلق يجب إعادة ترتيب العلاقة بين هذا الثلاثي ضمن حدّين: حدّ أدنى يشمل التنسيق في اليوميات السياسية بغية ان تكون خطواتهم ومواقفهم منسقة، وحد أقصى في حال استدعت الظروف الدفع في اتجاه إطار جبهوي ضمن شروط المرحلة ومتطلبات الناس، التي لم يعد من الجائز اختصارها أو إهمالها كقوة أساسية دخلت على خط التأثير في الحياة الوطنية.

 

- العنوان الثاني، تحديد الهدف السياسي المرحلي. والهدف القريب المدى الذي تحدث عنه الحريري هو الانتخابات النيابية المبكرة التي أعلن ضرورة حصولها، وهو يتقاطع في هذا الهدف مع الناس المنتفضة في الشارع أولاً، ومع "القوات اللبنانية" ثانياً، ولا يخشاها "الإشتراكي" ثالثاً، ويضع العهد و"حزب الله" تحت الضغط رابعاً، كون الانتخابات المبكرة لا تناسبهما.

 

ومن يؤيّد الانتخابات المبكرة يؤيّد إتمامها وفق القانون النافذ. ومن يرفض هذه الانتخابات يطالب بقانون جديد كوسيلة لتطييرها، ولكن تجنباً للصدام مع الناس يتذرع بالقانون لأنّه يُدرك استحالة التفاهم عليه، والقانون النافذ استلزم 10 سنوات من شد الحبال ونزاعات مفتوحة وظروف سياسية، ساعدت في الوصول إليه، فضلاً عن أنّ هذا القانون هو تمثيلي والأول من نوعه منذ العام 1992.

 

وأهمية القانون النافذ، انّه يعطي كل طرف حقه، والنتيجة التي حصل عليها "المستقبل" تعكس حجمه الفعلي، وهو ثاني أكبر تكتل اليوم، خصوصاً انّ المطلوب تكتلات تمثيلية لا منتفخة. وغير صحيح انّ هذا القانون يسمح لـ"حزب الله" بوضع يده على الأكثرية النيابية التي بجهد بسيط تنتقل من ضفة إلى أخرى، ويكفي ان يتحالف الثلاثي "المستقبل" و"القوات" و"الاشتراكي" مع عمل مكثف للحريري داخل تياره وبيئته لضمان هذه الأكثرية، وفي أقصى حد تحقيق التوازن بين كتلتي 8 و 14 آذار مع بروز كتلة وسط هي الناس، والتي يُفترض ان تكون "بيضة قبان" مرحلة ما بعد الانتخابات.

 

وعلى هذا المستوى يقتضي التذكير أنّ التحالف الانتخابي بين الحريري وباسيل منح الأخير خمسة نواب إضافيين. فالقانون الحالي ليس مفصّلاً على قياس أحد، وأي خلل يتحمّل مسؤوليته الطرف الذي أهمل ويهمل بيئته، فيما التحوّل الذي أحدثته انتفاضة 17 تشرين في مزاج الناس كفيل بقلب النتائج رأساً على عقب.

 

- العنوان الثالث، بداية العمل على مشروع وطني إنقاذي. لأنّ الوضع في لبنان لم يعد يحتمل مواصلة المراوحة نفسها والسياسات عينها التي أوصلت لبنان إلى الانهيار والفشل. وبالتالي من الضروري ان تفتح مناسبة 14 شباط الباب أمام تغيير جذري في كل السياسات المعتمدة منذ العام 1990، الأمر الذي يستدعي الاتفاق على برنامج وطني بين ثلاثي "المستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" من جهة، وانتفاضة 17 تشرين من جهة أخرى.

 

فلا يُفترض ترك التغيير للظروف أو غبّ الطلب او الاكتفاء بالترقيع، بل وجب الدفع مع الناس من أجل تغيير كل النهج المتّبع. ومن هنا ضرورة ان يترافق الضغط في اتجاه الانتخابات مع برنامج متكامل ينفصل عن كل المرحلة السابقة. والاتفاق على هذا البرنامج هو الذي يؤسّس لقيام تحالف جبهوي يرتكز على تصور شامل للدولة وليس جزئياً كما كان الحال مع 14 آذار، وإلّا سيبقى التقاطع على القطعة ومن ضمنه الانتخابات المبكرة، فيما الفرصة مؤاتية جداً للتغيير المنشود، بالإرتكاز الى اندفاعة الناس التي لن تكتفي بإخراج لبنان من الانهيار، بل بمنع الانزلاق إلى الانهيار مجدداً، الأمر الذي يتطلب تغييراً شاملاً في الممارسة الدولتية سيادياً وإصلاحياً.