لقد استسلمت الشعوب العربية لبلاغة التجريد. ذلك لأن سلطة الوهم صارت أقوى من سلطة الواقع.
 

السياسة في أبسط تعريفاتها هي فن الممكن. ولكن هل السياسة ممكنة في العالم العربي؟

كل المعطيات ومنذ عقود لا تشير إلى أن العرب قد عرفوا الطريق إلى السياسة. كان هناك دائما حكّام ولم تكن هناك حكومات بالمعنى الذي يمكن الاستدلال إليه وظيفيا.

لم تكن الطبقة السياسية الحاكمة لتشعر بأدنى حاجة إلى أن تراقب نفسها، بقدر ما كانت توظّف كل شيء من أجل مراقبة الآخرين. الآخرون بالنسبة لتلك الطبقة ليسوا خصوما يستحقون قسطا من التنافس بل هم الأعداء الذين يجب التخلّص منهم وسحقهم.

 

 

شيء ما يجعل كل شيء خاضعا لمعادلة الصراع المصيري. الحكومة تدافع عن مصالح الشعب عن طريق قمعه. هي في ذلك إنما تمارس نوعا من الإرشاد والتوعية والتثقيف المجاني من أجل أن تكون صورة الوطن أكثر وضوحا.

كان خطاب السلطة يبدأ دائما بعبارة “أيها الشعب العظيم” فيما كان المطلوب من ذلك الشعب العظيم أن يمضي قُدما في نومه السعيد، مستسلما بسعادة لإرادة حاكميه التي يجب أن تكون إرادته.

إنها معادلة سوق، البائع والشاري هما الشخص نفسه فيما يستمر الشعب في أداء دوره باعتباره متفرجا وشاهدا أخرس.

 

 

لو كانت هناك سياسة في العالم لما حكم حزب الله لبنان. ميليشيا مسلحة تموّلها دولة أجنبية هي إيران تتحكم بمصير شعب سبق له أن تعرّف على الحرية بأرقى صورها وكان دائما يتكلم بلغة عالمية.

ولو كانت هناك سياسة في العالم العربي لما تمكّن شخص جاهل مثل مقتدى الصدر أن يشكّل رقما صعبا في العملية السياسية في بلد عريق مثل العراق.

أتذكر خطب الزعماء العرب، من جمال عبدالناصر إلى صدام حسين مرورا بحافظ الأسد ومعمر القذافي وجعفر النميري فلا أتوقف أمام جملة واحدة تحمل مضمونا سياسيا.

 

 

كانت تلك الخطابات الطويلة جدا والمملة والمكررة ومنزوعة الدسم مجرد هذيانات شخصية يختلط من خلالها الغرور الشخصي بالكبرياء المريضة فكانت النتيجة أن لا يُقال أي شيء نافع.

لقد استسلمت الشعوب العربية لبلاغة التجريد. ذلك لأن سلطة الوهم صارت أقوى من سلطة الواقع. لم تعد الحياة المباشرة مهمة. كانت هناك مشاريع لحياة مقبلة هي أهم من الحياة الحالية.

تلك فكرة دينية استفادت منها الأنظمة المدنية وكرستها نهجا لها.

 

 

على سبيل المثال فقد ضحك النظام السوري على السوريين بفكرة الممانعة والصمود لتحل محل فكرة بناء وتغيير وتحديث سبل العيش اليومية في سوريا. فما دام النظام يقاوم فإن الشعب ينعم بكرامة الوجود.

كلها معان تجريدية. فلا مقاومة النظام حقيقية ولا كرامة الوجود يمكن تلمس الطريق إليها. كان الإنسان السوري يُسحق في كل لحظة عيش بعد أن جُرّد من قدرته على اختيار طريقته في التفكير في حياته والتعبير عنها.

 

 

لذلك يمكن القول إن الإنسان العربي يعيش حياة، هي ليست تلك الحياة التي يستحقها أو تليق بآدميته. إنها الحياة التي اختارها له النظام الحاكم. وهو اختيار لم يتم لأسباب سياسية بل لمصالح تستطيع من خلالها طبقة بعينها أن تستمر في عبثها ولهوها على حساب المبادئ والحقائق الأساسية التي تم تدميرها بشكل ممنهج.

غياب السياسة عن الحياة العربية كان له أثر مدمر على الحياة العربية. لقد تم تعطيل العقل السياسي لتحلّ محله عاطفة هوجاء لا تنطوي إلا على شعارات تدعو إلى الضحك ومن ثم تستدعي البكاء. فالنتائج ليست سارة. ذلك لأن العالم العربي يعيش حالة انهيار ليست نهايتها مرئية في الأفق.

 

 

لقد انتهى صانعو الكذبة غير أن الكذبة لا تزال تغري جموعا من البشر من أجل تصديقها.

بالنسبة للعرب فإن السياسة ليست فن الممكن بل هي فن المستحيل. ذلك ما يجعلهم يخسرون قضاياهم واحدة تلو الأخرى وهم يظنون أنهم ماضون إلى الهدف.