فيما لبنان غارق في أزمته الداخلية الخانقة وتطورات منح الحكومة الثقة، كانت أحداث مهمة تدور على مسافة قريبة منه، تحاكي نزاع النفوذ والمصالح بين القوى الكبرى المؤثرة على رقعة الشرق الاوسط.
 

فقد اندفع الجيش السوري بدعم روسي كامل في معركته لإنهاء وضع محافظة ادلب. كانت دمشق تريد تحقيق تقدّم عسكري كبير، يدفع تركيا لاحقاً الى رعاية تسوية سياسية، كمخرج لعدم بقاء هذه المنطقة خارج رعاية الدولة السورية. وهي ارتأت أنّ الظروف السياسية باتت مساعدة في هذا الإطار، وسط تشجيع روسي.

 

فالنزاع حول الغاز البحري محتدم، والتورّط التركي في ليبيا يصبّ لمصلحة العملية. كما انّ الولايات المتحدة الاميركية منشغلة مع اسرائيل في طريقة تسويق «صفقة القرن» والاستفادة منها إنتخابياً في الداخل الاميركي كما الاسرائيلي. روسيا بدورها تريد لي ذراع تركيا. ذلك أنّ اردوغان ذهب الى ليبيا وشرع في نقل مقاتلين سوريين من فصائل مؤيّدة له، وهو ما يعني قدرته على خوض المعارك من دون الخشية من الكلفة البشرية ووقوعه تحت ضغط المعارضة التركية. وخلال المرحلة الأخيرة راقبت موسكو بشيء من التوجس تعاظم قوة الاسطول التركي وتعزيز قدراته، واندفاع السفن التركية في التنقيب عن حقول الغاز في شرق البحر الابيض المتوسط. وبذلك تصبح وجهة المعارك في ليبيا مهمة جداً وذات تأثير في طريقة بسط النفوذ على شرق البحر الابيض المتوسط.

 

ومنذ اشهر معدودة أجرت مصر واليونان وقبرص مناورات عسكرية مشتركة عنوانها مواجهة تهديدات محتملة في البحر المتوسط. هي مناورات تزعج تركيا ولا ترضي روسيا ايضاً، خصوصا انّ الرائحة الاميركية تفوح منها.

 

لكن النزاع التركي ـ الروسي حول السيطرة البحرية استمر في التصاعد، فتقصّد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان خلال زيارته أوكرانيا أخيراً، اختيار عبارات تثير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمثل قوله: «المجد لأوكرانيا».

 

لكن تركيا تدرك انّه لا يمكنها في نهاية الامر الذهاب في خصومة روسيا الى النهاية. صحيح انّها تمتلك بعض اوراق الضغط من خلال علاقتها الوثيقة ببعض الفصائل السورية المسلحة، وهو ما استخدمته في ليبيا، إلاّ انّها بحاجة لروسيا لمنع حصول موجة نزوح كبيرة للسوريين في اتجاه الداخل التركي، وهو ما كلّف اردوغان أثماناً في الانتخابات البلدية، اضافة الى قدرة روسيا على الحدّ من دور الميليشيات الكردية التي تثير انقرة، وايضاً بسبب اعتماد تركيا على الغاز الروسي. في نهاية الامر، استطاع الجيش السوري تحقيق تقدّم مهم على الارض وتأمين طريق M-5 الذي يربط العاصمة الإدارية دمشق بالعاصمة الاقتصادية حلب.

 

صحيحٌ انّ تركيا دفعت بقوات كبيرة لها خصوصاً من القوات الخاصة وقوات التدخّل السريع (كوماندوس) معزّزة بدبابات وعربات مصفحة وعربات هجومية، الاّ انّ البيان الروسي الصادر في الامس تضمن دعوة الى التمهل والعودة الى الالتزام بالاتفاق.

 

ومع نهاية هذه الجولة، وعلى رغم التعديلات المهمة التي طرأت على الخريطة الميدانية، الّا انّ الصورة العريضة استقرت على استمرار «الستاتيكو» المعمول به وانتظار التفاهمات الكبرى، ما يعني تجميد اي خطوات عسكرية تركية. ذلك أنّ هنالك همساً ديبلوماسياً حول وجود بداية مفاوضات اميركية ـ روسية حول المنطقة، وهذا ما جعل تركيا التي شعرت بها، تدفع بقوات كبيرة لها الى منطقة ادلب.

 

ولأنّ ثمة تفاهمات اميركية ـ روسية يجري نسجها في هدوء وبعيداً من الاضواء، ظهرت حماسة سعودية لتمويل مجموعات عربية منضوية في قوات «قسد»، بهدف توظيفها لاحقاً في وجه ايران وتركيا على حد سواء.

 

وهؤلاء مقاتلون عرب قاتلوا الى جانب الاكراد، وما شجع السعودية هو غياب قاسم سليماني، ما ادّى الى مساحة فراغ تحاول الرياض ملأها.

 

كذلك مسارعة واشنطن، وبخلاف قرارها الانسحاب من سوريا، الى بناء قاعدة جديدة لها وبسرعة كبيرة في نقطة تبعد زهاء 40 كلم عن شمال الحسكة، وهي اسرع طريق الى حقول نفط رميلان. كذلك تمّ تعزيز القوات الاميركية في محافظة دير الزور الغنية بالنفط.

 

ومن الطبيعي ان تحاول اسرائيل الدخول على الخط، فوزير الدفاع نفتالي بينيت قال غداة عودته من زيارة لواشنطن، التقى خلالها نظيره الاميركي مارك اسبر، بأنّه اتفق مع الاميركيين على العمل بالتوازي لعرقلة جهود طهران لإنشاء الطريق البري الى لبنان. وانّ الجيش الاميركي سيتولى المهمة في العراق والجيش الاسرائيلي في سوريا.

 

وفيما لم يصدر أي شيء عن واشنطن، اعلن السفير الروسي في سوريا بعد ساعات على كلام بينيت، وبعد الغارة الاسرائيلية قرب دمشق، أنّ الغارات الاسرائيلية استفزازية وخطيرة جداً، وانّها ستزيد من احتمال النزاع حول سوريا، وهي تتعارض مع الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والتسوية السياسية. وهنالك من قرأ في الموقف الروسي تشجيعاً اميركياً، وأنّ التشجيع الاميركي الذي سمعه وزير الدفاع الاسرائيلي من نظيره الاميركي كان كلاماً انتخابياً، فيما الموقف الروسي يعكس الموقف الاميركي الجدّي والفعلي. أضف الى ذلك، تناقل الاوساط الديبلوماسية الاميركية معلومات عن وجود نية اميركية لتمديد اعفاء العراق من العقوبات، ما يتيح لبغداد الاستمرار في عملية شراء الطاقة من ايران لمدة 120 يوماً.

 

هذا القرار الذي يسمح لإيران بالحصول على العملات الصعبة، سيأتي بعد تكليف محمد علاوي تشكيل الحكومة العراقية.

مع الاشارة الى انّ وزيري خارجية ايران وسلطنة عُمان التقيا اربع مرات في خلال شهر واحد. لكن إعادة تثبيت «الستاتيكو» في إدلب، وفتح قنوات المفاوضات السرية بين واشنطن وموسكو، وعودة النشاط الى الوساطة العمانية، لن تشمل الساحة الليبية، التي تشير المعلومات الى تحضيرات لعملية تخطط لها قوات خليفة حفتر ضد حكومة فايز السراج التي تدعمها تركيا وذلك في المستقبل القريب.

 

وسط كل ذلك، لا بدّ من فسحة ترقّب في لبنان ستتولاها حكومة حسان دياب، لكن ذلك لا يعني أبداً بداية حل، لا بل على العكس، فالمرحلة المقبلة قد تكون في حاجة الى تعديلات في لبنان تتوافق مع الانتظام العام في المنطقة، وبالتالي ترتيب أحجام جديدة، لا بدّ من ان يحصل على وقع ضغط الشارع الذي سيعود بقوة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية.