شاء من شاء وأبى من أبى فلبنان في قلب المأزق نقدياً ومالياً وسياسياً، ومن يهدد بالأخطر والأسوأ يدرك أنّ الفصل بين ما هو سياسي وما هو إقتصادي ونقدي بات صعباً لا بل مستحيلاً. ولذلك فإنّ الاستمرار في اللعب على حد السكين يشبه الانقياد الى لعبة «الروليت الروسية» بما تحمله من مخاطر، ولذلك فهل من مخارج ممكنة لتجاوز الأزمة؟
 

يجمع وزراء حكومة الرئيس حسان دياب انّ الثلاثاء الذي صادف 11 شباط الجاري شَكّل تحولاً في الدور والمهمات التي أوكلت اليهم حكومة مجتمعة ووزراء أفراد، وبالتأكيد فإنّ ما بعده غير ما قبله. فما القته ثقة جزء من مجلس نيابي ولد قبل 17 تشرين الأول الماضي لم يعترف بما بعده، هي ثقة غير كافية وإنّ ما ينقص شرعيتهم لتكتمل هو اكتساب ثقة اللبنانيين المنتفضين على مساحة الوطن كمدخل أساسي وإجباري الى نيل ثقة المجتمعين العربي والدولي والدول والمؤسسات المانحة.

 

لا يختلف مُوال ومعارض على قراءة هذا الواقع بكل وقائعه، فكل ما رافق جلسة الثقة بساعاتها السبع من أحداث توزّعت بين قاعة الجلسات ومكاتب النواب والنفق الفاصل بينهما، وصولاً الى ما شهدته الشوارع المؤدية الى وسط بيروت، لم يكن عاديّاً. ولم تشهد الحياة السياسية مثيلاً لهذه المحطات الدستورية التي رافقت ولادة الحكومات منذ الإستقلال الى اليوم. فدياب الذي دخل للمرة الأولى الى ساحة النجمة وزيراً للتربية برفقة الرئيس السابق نجيب ميقاتي عام 2011، يمكنه ان يقرأ الفارق في ما حدث نظراً الى تَشابه المحطتين ولو بفوارق بارزة. فما رافق تشكيل تلك الحكومة من رفض شعبي نتيجة اعتبارها حكومة انقلابية على تيار «المستقبل» ورئيسه سعد الحريري لم يكن بقياس ما حصل في الأمس. فقد كان محصوراً يومها بالساحة السنية ودار الفتوى فقط، ولم يكن رفضاً شاملاً تجاوز الدار و«بيت الوسط» على مساحة كبيرة من الوطن رغم زيارته أمس لدار الفتوى.

 

وعلى هذه المعادلة، يبنى كثير من التوقعات والسيناريوهت المنتظرة، فالظروف التي تمر بها البلاد لا تسمح بكثير من الترف السياسي وإن كان دياب مولعاً بالمجاذفات، وهو الذي يردّد أمام زواره منذ دخوله السراي الحكومي مقولة انه «ولد من بطن أمه كاميكازاً»، فإنه يدرك ما ينتظره ويستعد له بما أوتي من قوة أكاديمية ساعياً الى اكتساب كل أشكال المناعة المفقودة من الداخل والخارج. فلا الساحة السنيّة قابَلته بعد بما يريده من تغطية، ولا الساحة الوطنية الشاملة ارتاحت الى ما تحقق حتى اليوم وما عليه سوى الإنطلاق من نقطة الصفر في كل ما يريد القيام به لمواجهة مثل هذه الأجواء وترويضها تمهيداً لاستيعابها، ولربما جاءت زيارته أمس لدار الفتوى اولى الخطوات على طريق الألف ميل.

 

ورغم هذا الاقتناع الذي يشاركه فيه كثيرون من فريقه الوزاري ومعم مراقبون من مستويات مختلفة، فإنّ دياب إذا تمعّن في ما شهدته جلسة الثقة يدرك انّ عليه المبادرة في اكثر من مجال وقطاع سياسي ونقدي وانمائي ليحصل على شرف المبادرة في زمن تعطّل كل أشكالها. فالحكومة التي شكّلها لا تشبه «فريقه السياسي» كما اعترف رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد في جلسة الثقة، مضيفاً انه ارتضاها «بهدف تسهيل مهمة التأليف»، في وقت أكد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أنه لم يكن من «بديل أمامنا الا المراوحة والفراغ...». وسأل: «هل نعطي الثقة أم نعطي الفرصة؟».

 

انّ التوقف أمام هاتين المداخلتين لراعيي تشكيل الحكومة الجديدة لا يقلل من اهمية ما قيل في الحكومة وعنها، ولا ينفي المخاوف من طريقة إدارة الجلسة النيابية التي يمكن ان تقود 10 نواب إن وجدوا بالتقدّم امام المجلس الدستوري بمراجعة دستورية تُنهي مفاعيلها قياساً على الخروق التي سجّلت لِما يقول به النظام الداخلي للمجلس والدستور معاً. وهو أمر يخشاه دياب وبعض الوزراء رغم علمهم بما لرئيس المجلس نبيه بري من «مَونة» على الخصوم والموالين، فقادَ الطرفين الى جلسة جمعت 84 نائباً أثناء التصويت على الثقة.

 

وفي اعتقاد بعض الوزراء ومعهم مراقبون كثر، أنّ ما جرى لا يخدم الصورة التي أرادتها الحكومة في جلسة كاملة المواصفات الدستورية. فـ»ارتكاب السبعة ودمّتها مرة ثانية» لم يكن أمراً اضطرارياً وملزماً، وانتظار دقائق لافتتاح الجلسة وتلاوة النصوص الدستورية وقراءة مرسوم تشكيل الحكومة لم يكن ليؤثر على مجراها الدستوري والنظامي. لا بل كان يمكن ان يعوّض من خلاله ما أصاب المجلس والحكومة معاً من شظايا التدابير الأمنية والعسكرية المتشددة التي شهدتها بيروت، وأثارت الرأي العام الدولي قبل الداخلي.

 

وبعيداً من هذه الملاحظات، لا بد من التوقف امام مسلسل الاستحقاقات التي تنتظرها الحكومة قياساً على حجم الترددات التي رافقت التكليف والتأليف، وصولاً الى آخر المشوار الدستوري بنيلها الثقة. فلم يسجل في كل هذه المحطات أي رد فعل إيجابي في السوق الداخلية والأوساط الخارجية، وهو أمر يدفع الى توقّع الأسوأ. فإلى الاهمال العربي والدولي والانتقادات التي رافقت طريقة التعاطي مع المنتفضين، لم تتجاوب السوق النقدية مع أيّ من هذه المراحل لا بل فقد عكست آخر مراحلها الدستورية ارتفاعاً ملحوظاً في سعر الدولار، الذي عاد أمس بعد يوم على نيل الحكومة الثقة الى الارتفاع لدى الصرّافين ليراوح السعر بين 2250 و2260 ليرة للمبيع و2290 و2300 ليرة للشراء، على وقع استمرار السعر الرسمي للصرف لدى مصرف لبنان والمصارف على وتيرته الثابتة بـ 1515 ليرة.

 

وتأسيساً على ما تقدّم، فقد توقف المراقبون أمس «مجازياً» امام ما أعلن من سلطنة عمان عن توقيع وزارة التراث والثقافة العمانية ومتحف بيرن السويسري للتاريخ الطبيعي «اتفاقية مسح وتوثيق ودراسة النيازك»، والتي نَصّت في أحد بنودها على «تركيب كاميرات لمراقبة السماء في بعض الأماكن»، بغرض «رصد أيّ نيازك تدخل أجواء السلطنة، والوصول إليها فور سقوطها لإجراء مزيد من البحوث العلمية عليها قبل تأثرها بالعوامل الأرضية»، في وقت كان الجدل قائماً تحت قبة البرلمان في بيروت حول اكتمال النصاب من عدمه، ومن أدى دخوله ولو متأخّراً الى توفيره في قاعة لا يزيد عدد روّادها على بضعة عشرات من الموظفين والاعلاميين والنواب لا يصل الى مئة شخص.

 

وعليه، يصرّ كثيرون على اعتبار انّ كل ما يجري في لبنان، ورغم وجود ظروف استثنائية، إمّا «لعب مستمر على حد السكين» قد يؤدي الى احتمال السقوط في الهاوية الأخيرة أو النجاة بخطوة قد تقود الى بداية الإنقاذ، وإمّا أنها لعبة «الروليت الروسية» أيّاً كانت النتائج الكارثية لها.