باتت أزمات البلد السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية والاجتماعية، مترابطة أكثر من أيّ وقت مضى، ضمن مسار منتظم، يناقض ما يتبدّى ظاهرياً من فوضى في المواقف السياسية وحركة الاحتجاج في الشارع.
 

بات الفرز واضحاً. فمنظومة الحكم في لبنان انتقلت من نمط حكومة مشاركة، يجري فيها تقاسم المسؤوليات والمكاسب وفق قاعدة الغرم بالغنم، إلى حكومة أغلبية بات واجباً عليها، لكي تستمر، أن تخوض حرباً وجودية مع معارضة شرسة.

 

في الأوضاع الطبيعية، يُفترض أن تكون تلك الصيغة نموذجية في سياق الحكم الديموقراطي - البرلماني، الذي يستوجب دوماً وجود ثنائية الحكومة والمعارضة، حيث تسعى الأولى الى تحقيق برنامجها السياسي - الاقتصادي، الذي نالت على أساسه الثقة النيابية، في حين تضطلع الثانية بدورها الرقابي، منعاً لأي استئثار أو انحراف.

 

لكنّ الأوضاع في لبنان لا يمكن أن تكون بهذه الصورة الطوباوية لآليات الحكم تلك. فحالة الاستقطاب الحادة، المبنية على اصطفافات طائفية - فئوية، والمتغيّرات التي أفرزتها الأشهر الماضية، التي بات معها الانهيار الاقتصادي، ومعه الانفجار الاجتماعي الشامل، سيناريو أقرب إلى التحقق بمسافة صارت تُقاس بالأسابيع، تجعل الحكومة الطرف الأضعف في المعادلة الجديدة، حتى وإن كانت تمتلك الغالبية البرلمانية.

 

مكمن الضعف في الحكومة الحالية أنّها ستكون حكومة إدارة أزمات، أو ربما إدارة كوارث، ما يجعلها مكبّلة بالكثير من القيود، ومحاصرة بين فكّي كماشة الشارع المختنق بضغط الأزمة الاقتصادية- المالية، وبضغط المعارضة المستجدة، التي تخوض معركتها من موقع «النمر الجريح» الذي كان حتى الأمس القريب شريكاً في الحكم.

 

يُضاف إلى ما سبق، أنّ الفساد السياسي، وهو سمة تمتد جذورها إلى مئة عام بالتمام والكمال، منذ أن أعلن الجنرال الفرنسي غورو قيام «دولة لبنان الكبير»، والذي بات أكثر تعقيداً في دولة ما بعد الاستقلال، ولاحقاً في دولة ما بعد الطائف، يجعل الحياة السياسية في البلاد صراعاً يُلبسه البعض الطابع الوجودي، وفيه تصبح كل الأسلحة السياسية - وربما غير السياسية - متاحة، حتى وإن تطلّب الأمر تفجير البلد برمّته أو التحالف مع الشيطان!

 

كل تلك الأسلحة يمكن توقّع استخدامها هذه المرة من قِبل الجميع، ولا سيما ممن اختاروا الجلوس على مقاعد المعارضة، الذين يمكن افتراض أنّ هدفهم المقبل سيكون إثبات الفشل، حتى وإن تطلّب الأمر الدفع بالبلاد نحو الانهيار الاقتصادي، لكي تتحمّل الحكومة الجديدة تبعاته، وبالتالي إعادة إنتاج المعادلة ذاتها التي حكمت لبنان منذ انتهاء حقبة «الوصاية السورية»، والتي يمكن تلخيصها بعبارة «إمّا التسوية وإمّا الفوضى».

 

بهذا المعنى، يمكن فهم الصراع المتجدّد بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، والذي أطلق سعد الحريري شرارته في دردشته مع الصحافيين، وما تلاها من تراشق، استحضر كل طرف فيه صواريخ كلامية باليستية، من قبيل اعتبار رئيس الحكومة السابقة، أنّ من يحاولون إقفال «بيت ‏الوسط» هم أنفسهم الذين حاولوا إقفال بيت رفيق الحريري باغتياله»، وبيان «تيار المستقبل» الذي شبّه «الحملة المتجدّدة ‏على الحريرية الوطنية» بالظروف نفسها التي حكمت «هواة الحروب العبثية، المفطورين على وهم إلغاء الآخر، كمنهج بدأ في اواخر الثمانينات، ‏وادّى الى تداعيات كارثية على اللبنانيين عامة والمسيحيين بصورة خاصة». وهو ما قوبل بردّ من العونيين، ان بتغريدات عبثية، استحضرت «الفرامة» السعودية، أو ببيان رسمي تحدث عن «إفلاس» و«شدّ عصب» لمناسبة ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

 

وبعيداً من حفلة «الردح» المتبادلة، فإنّ الكلمة المفتاح لفهم المعركة الجديدة بين العونيين والمستقبليين هي كلمة «وان واي تيكت»، التي تحمل الكثير من الدلالات عمّا ستؤول إليه حال الصراعات المقبلة في لبنان.

 

في الواقع، تأتي الـ«وان واي تيكت» لتكرّس واقعاً يتجاوز انهيار التسوية الرئاسية، وما تلاها من تسويات حكومية، بين سعد الحريري وجبران باسيل، وهي تشي بصراع مفتوح، تقترب من أن تكون «حرب إلغاء» سياسية، يمكن أن تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة، حتى وإن كان ذلك على حساب البلد الواقف على حافة الهاوية.

 

ومن جهة، فإنّ الـ«وان واي تيكت» تعني أنّ الخيارات باتت واضحة للجميع قبل ثلاث سنوات على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية... في حال بقيت هنالك جمهورية أصلاً.

 

سعد الحريري اختار الانتقال الى المعارضة في ما تبقّى من سنوات العهد العوني، ليخوض معركة «ردّ الاعتبار»، بعدما تلقّى طعنة تكليف حسان دياب، وفشل كل مناوراته لأن يكون رئيساً للوزراء بصلاحيات شبه مطلقة.

 

وما قيل خلال «الدردشة» من المؤكّد أنّ عباراته ستكون أكثر وضوحاً في خطاب ‏‏14 شباط، الذي سيشكّل نقطة بداية للانتقال من معركة «أنا أو لا احد» إلى معركة «عليّ وعلى أعدائي»... طالما أنّ هياكل المعبد الذي قامت عليه شراكة الحكم باتت أقل قدرة على تحمّل الانهيار الاقتصادي إن حدث. ولكنّ الحريري هنا يصوّب المعركة باتجاه عون - باسيل فقط، في موازاة الإبقاء على قواعد الاشتباك مع «حزب الله» على حالها، دونما أيّ تغيير جوهري، بما يمنحه هامش مناورة أكثر اتساعاً، قياساً إلى خيار الذهاب نحو حرب «بونابرتية» ضد الجميع.

 

وعلى الجهة المقابلة، لا يبتعد جبران باسيل في معركته عن منطق الـ«وان واي تيكت». يدرك رئيس التيار الوطني الحر أنّ ثمة حاجة إلى ترميم حضوره، استباقاً لمعركة الرئاسة المقبلة، خصوصاً أنّ رصيده تهاوى منذ ليلة السابع عشر من تشرين الأول، حيث تلقّى من الحراك الشعبي ومن خصومه على حد السواء الضربات المتتالية، قبل ان يستعيد زمام المبادرة، بخرو ج الحريري، وتشكيل حكومة حسان دياب.

 

لكنّ استعادة زمام المبادرة لا تكفي باسيل المصرّ على طموحاته، ومن هنا فإنّ معركته مع الحريري بشكل خاص، ستكون بدورها حرباً وجودية. فما ستحققه حكومة حسان دياب سيُضاف إلى رصيد رئاسة الجمهورية، وامتداداً إلى رصيده السياسي نفسه، والعكس صحيح.

 

هذا الواقع يشي بأنّ أدوات المعركة الجديدة لن تتأخّر لتطال «مشروع الحريرية» منذ بداياته التسعينية، وهو ما يجعل فريق باسيل أكثر استعداداً اليوم لفتح ملفات إدانة هذا المشروع، وبحدّها الأدنى، إدانة الفلسفة الاقتصادية التي بُني عليها، وفي حدّها الاقصى فتح ملفات فاسدي تلك الحقبة، ولكن ضمن ضوابط دقيقة، طالما أنّ «لا أحد فوق رأسه خيمة».

 

وفي المقابل، فإنّ الفريق الحريريّ لن يكتفي في المعركة بأسلحة الدفاع، وإنما الهجوم باتجاه النقطة الأكثر ضعفاً في جسم العهد، وهو الانهيار الاقتصادي، وفيه يمكن افتراض أنّ هذا الفريق لن يسمح بتمرير ما من شأنه ان يسمح بتنفيذ أجندة الإنقاذ الحكومية، ولكن أيضاً ضمن ضوابط معينة، طالما انّ الانهيار لن يرحم أحداً.

 

هنا يمكن فهم المعادلة باختصار: حرب وجودية لن تكون سهلة بين باسيل والحريري، يسعى كل من طرفيها إلى حسمها بالنقاط، طالما أنّ الحسم بالضربة القاضية غير ممكن في بلد مثل لبنان، مع إدراكهما بأنّ الظرف السياسي والاقتصادي لا يسمح بترف منازلة من هذا القبيل. فكل نقطة تُضاف إلى رصيد هذا، وكل نقطة ستفقد من رصيد ذاك، لن تكون إلّا على حساب بلد يتهاوى يوماً بعد آخر، ويجعله مشرّعاً أمام شتى الاحتمالات الكارثية.