الثقة الضرورية لانقاذ لبنان ليست برلمانية، على اهميتها، فإذا لم تصوّب السلطة من رأس الهرم الى اسفله مسارها السياسي وتعيد التوازن الى لبنان لتمهّد طريق استعادة الثقة الشعبية والخارجية، فان ما تضمنته عظة راعي ابرشية بيروت المطران بولس عبد الساتر في قداس مار مارون من نصيحة للمسؤولين، أشرف لهم الخروج وليفسحوا المجال لمن يملك القدرة على استعادتها.
 

على مقربة من المجلس النيابي المعزول بالاسلاك الشائكة، شكلت عظة مار مارون لمطران بيروت للموارنة بولس عبد الساتر، الحدث السياسي، لا سيما وأنها توجهت مباشرة إلى الرؤساء الثلاثة ، الذين كانوا في مقدمة الحضور، مع عدد من النواب والوزراء، فيما خاطبهم قائلاً أما ان تصلحوا الخلل في الأداء السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي، وان تعملوا مع الثوار الحقيقيين على إيجاد ما يؤمن لكل مواطن عيشة كريمة، والا فالاستقالة أشرف لكن لا حياة لمن تنادي خصوصاً لجهة سلطة امعنت وتمادت بممارسة الانكار ،الرسالة التي اعتبرها كثيرون ان الكنيسة المارونية اصطفت إلى جانب الانتفاضة، لا سيما وان البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي كان موجوداً في الفاتيكان، صلى في المناسبة على نية ثوار الانتفاضة ، واللافت ان العظة التي باتت وثيقة كنسية، بالنظر إلى انها توجهت مباشرة إلى الرؤساء وتجاهل الإعلام الرسمي ردود الفعل عليها، انتهت بعبارة شكلت بحد ذاتها جرس إنذار.

إن قرار السلطة هو المضيّ بسياسة الانكار وتحدي إرادة الشعب، وعدم التنازل، وقطعاً عدم الذهاب نحو الإصلاح ومواجهة الفساد فضلاً عما هو أكبر من مطالب الانتفاضة كالانتخابات المبكرة وملاحقة الأموال المنهوبة، والدليل على ذلك الكلام عن ضرورة تحمّل الوضع السيئ، والمضي بالخيار الأمني في التعامل مع صرخة الشعب. 

 

اقرا ايضا : الثقة على ابواب هبوب العواصف الداخلية والخارجية

 

عدم الثقة بالسلطة وبالحكومة التي انبثقت عنها، لا ينحصرُ في الداخل اللبناني، الخارج أيضاً يشاطر غالبية الشعب اللبناني موقفه هذا ولو على تفاوت في الأهداف، فالولايات المتحدة الأميركية مهتمة بإنجاز مسألة الحدود البحرية ومن دون شك تتطلع إلى موقف لبناني ايجابي من صفقة القرن مع إبقاء سيف العقوبات مسلطاً على المتورطين بالفساد عبر استغلال السلطة، والاتحاد الأوروبي يكرر الموقف بأن تنفيذ شروط الجهات المانحة في مؤتمر سيدر مدخل أساسي لتقديم القروض الميسرة التي تمّ الالتزام بها والتي تقارب الـ11 مليار دولار، وهناك فوق ذلك عدم ارتياح عربي، خليجي تحديداً، لحكومة اللون الواحد، واستياء سعودي من بيع الكلام المكرر حول النأي بالنفس والاستراتيجية الدفاعية الموعودة، ومن نشاط حزب الله السلبي في أكثر من بقعة تتصل بأمنها واستقرارها، فضلاً عن استهداف دورها التاريخي ووقوفها إلى جانب لبنان. وكل المواقف السابقة تتقاطع حول قاسم مشترك هو الإصلاح ومحاربة الفساد، وهو ما تعجز عنه السلطة الحاكمة لتورط أركانها فيه، وهو أيضاً ما كانت أكدت عليه مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان التي حثّت الحكومة على اعتماد التدابير والإصلاحات الجذرية وذات المصداقية الشاملة والقادرة على تلبية طلبات الشعب اللبناني، رابطة بشكل واضح بين المساعدات وبين الإصلاحات ومكافحة الفساد والتهرب الضريبي من دون أن تغفل الإشارة إلى استقرار لبنان وأمنه وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله السياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي . 

وسط ما تقدم، يقدر المطلعون أن الحكومة تملك الأغلبية التي تتيح لها نيل الثقة النيابية المطعون بها شعبياً . ليس سراً أن لبنان يدخل في نفق مظلم. فالبلاد محاصرة بسبب الإصرارعلى إلحاقها بالمحور الإيراني، ومن موقع العداء الشديد لكل المنظومة العربية، حتى ولو تم التحايل على ذلك بوزير خارجية محترم ، من دون تغيير في التوجه والقرار السياسي.إن الجزء الأكبر من الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، والتي لا تزال في بداياتها، له صلة بالتموضع السياسي للبنان، الذي لو لم يكن على ما هو عليه لأمكن الركون إلى دعم عربي ودولي يعين لبنان على تنظيم أفضل للتعايش مع أزمته، وتدبير سبل الخروج منها ضمن برنامج زمني معقول، بدل حالة اليأس التي تضرب عموم اللبنانيين. فحتى النقاش الخبيث في تغيير النموذج الاقتصادي اللبناني، بغية التعمية على المشكلة الحقيقية، والتشديد على ضرورة نقله من حقل الخدمات إلى حقل الإنتاج الزراعي والصناعي، لا يأخذ بعين الاعتبار أن السوق الطبيعية للمنتج اللبناني أو للمستثمر العربي، هي الخليج، أي المنطقة التي بالغ لبنان في استعدائها والتطاول على أمنها. الفرق كل الفرق في مسار الازمة الخطيرة التي تمر بها البلاد لا يمكن ان يحصل الا من خلال ثقة الشعب والثقة الدولية الكفيلتين وحدهما بإعادة وضع لبنان على سكة الخروج من الهاوية، وما دامت الثقتان فشلت الحكومة بنيلها، بدليل ما كان يحصل خارج جدران العار كما يحلو للثوار تسميتها من مواجهات بين الشعب والقوى الامنية لمنع حصول الحكومة على الثقة، وفي غياب اي مؤشر لفتح خزنات الخارج العربية والغربية امام حكومة دياب حتى اللحظة، فعبثاً تحاول السلطة السياسية. 

الثقة الضرورية لانقاذ لبنان ليست برلمانية، على اهميتها، فإذا لم تصوّب السلطة من رأس الهرم الى اسفله مسارها السياسي وتعيد التوازن الى لبنان لتمهّد طريق استعادة الثقة الشعبية والخارجية، فان ما تضمنته عظة راعي ابرشية بيروت المطران بولس عبد الساتر في قداس مار مارون من نصيحة للمسؤولين، أشرف لهم الخروج وليفسحوا المجال لمن يملك القدرة على استعادتها.