«زمانك بستان وعصرك أخضر وذكراك عصفور من القلب ينقر دخلت على تاريخنا ذات ليلة فرائحة التاريخ مسك وعنبر» (نزار قباني)
 

إن كان رفيق الحريري حالماً، لكنه لم يكن يبني حلمه على أوهام، لقد كان متفائلاً بأنّ الصعوبات كلّها يمكن تسويتها بالتدرّج وبالصبر وخلق الفرص المناسبة لحلّها، من دون خسائر كبرى للأطراف المعنية.

 

عندما أتى إلى الحكم عام 1992 كان يعرف جزءاً من قواعد اللعبة في لبنان وتوازناتها الإقليمية الدقيقة. أتى إلى الحكم والعالم كان قد دخل مرحلة جديدة بعد انهيار جدار برلين، ونهاية «الحرب الباردة» بانتصار الرأسمالية، وبعد حرب «عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت، والتي أدّت بمحصّلتها العامة إلى إعادة توكيل سوريا حافظ الأسد بشؤون لبنان على أساس أنّ «اتفاق الطائف» سيكون الحكم في مسار الأمور. كان البلد مدمّراً ومقسّماً، وسعر صرف العملة في الحضيض، من دون أي أفق سياسي أو اقتصادي، بمعنى أنّ لبنان كان عملياً، دولة فاشلة بقيادة عاجزة!

 

لكن في الوقت نفسه، كانت المنطقة في جَو تسويات كبرى بعد مؤتمر السلام في مدريد عام 1992، وهو الذي أعطى انطباعاً بأنّ حل قضية فلسطين أصبح قاب قوسين، وبالتالي فإنّ السلام بين الدول العربية وإسرائيل هو بعد ذلك تحصيل حاصل.

 

أراد رفيق الحريري أن يُدخِل لبنان وسوريا في سباق مع عملية السلام لتمكين البلدين من استباق الهجوم الإسرائيلي العلمي والاقتصادي والمعلوماتي المتوقّع عند إنجاز عملية السلام. من هنا، فقد أراد تجاوز كل المعوقات والوقائع، من خلال تسويات محلية هجينة، على أمل في أنّ النمو الاقتصادي الآتي سيتمكن من تغيير الواقع السياسي من خلال تحرير الاقتصاد والخَصخصة الراشدة، ما سينتج ما سمّي «ترشيق القطاع العام» ودفع القطاع الخاص الى أخذ المبادرة وفتح آفاق الفرص للشباب، الذين كان جزءٌ منهم، قد أتمّ دراسته الجامعية على نفقة مؤسسة الحريري.

 

منذ اللحظة الأولى كان رفيق الحريري يعلم باستحالة إصلاح الحال في لبنان من دون استدراج نظام حافظ الأسد نحو مخطط فتح الأسواق والقبول بمنطق الاقتصاد الحر، ولو تدريجاً. كان قد طلب إعداد دراسة لتحويل سوريا تدريجاً نحو «اقتصاد السوق الإشتراكي» عرضت على حافظ الأسد في أواخر ثمانينات القرن الماضي، فوضعت طَي النسيان، رغم أنّ الرئيس الشهيد كان مستعداً لدعم هذا التحوّل بمليار دولار منه شخصياً.

 

كان رفيق الحريري يعتقد أنّ فتح السوق وتحرير الاقتصاد سيؤديان، عاجلاً أم آجلاً، إلى تطوير الواقع السياسي في اتجاه مزيد من الحرية للمواطنين على مختلف المستويات. هذا ما كان أساس تفاؤله في إصلاح العلاقة غير السَويّة التي كانت تربط سوريا بلبنان على مدى عقود عدّة. كان همّه نقل العلاقة من مستوى الوصاية والاحتلال إلى مستوى التكامل المصلحي والاقتصادي، وهو الذي يكسر الحدود من دون حاجة الى الاحتلال العسكري.

 

قبل حافظ الأسد في تلك الفترة السماح بافتتاح مصارف خاصة في سوريا، كان للمصارف اللبنانية الدور الأهم في هذا النشاط. لكن هذه الفلسفة التي تربط حرية الاقتصاد بالحرية السياسية لم تكن خافية على حافظ الأسد، العالم طبعاً بهزالة الاقتصاد السوري الموجّه والموبوء بالفساد والمحسوبية وضمور الإنتاج، ولكنه في الوقت نفسه كان واعياً أنّ حرية السوق المفتوحة ستؤدي حتماً إلى نشأة مراكز قوى جديدة، على حساب الأمر الواقع الذي جعله رئيساً «إلى الأبد» على سوريا، وحاكماً مطلقاً على لبنان، وزعيماً مهماً يحلم بنيل مكانة مشابهة لمكانة جمال عبد الناصر.

 

من هنا، تسامَح الأسد جزئيّاً مع مساعي رفيق الحريري في سوريا، وترك له الحرية في العمل مع ضوابط محلية في لبنان كانت تعتمد على استمرار واقع تجييش مجموعات سياسية تابعة له لضبط كل مشاريع رفيق الحريري الطموحة. تمكن رفيق الحريري من خطف فترة من السماح والاستقرار التي مَكّنته من تمرير مشاريع إنشاء البنية التحتية وشبكة الطرق والمواصلات ومشروع وسط بيروت، على رغم مما شابَها من اعتوارات مالية، كانت تفرضها قوى الأمر الواقع المحلية والإقليمية.

 

في تلك الفترة فشلت أولى محاولات إصلاح البنية الإدارية في الدولة، بعد عملية طرد فاشلة لبضعة مئات من الموظفين بملفات فساد واضحة ومثبتة، الفشل في الإصلاح أتى بضغط سياسي شَرس من حرس النظام القديم وورثتهم الجدد الذين يعتبرون مؤسسات الدولة إقطاعيات مرصودة لهم في ظل شعارات برّاقة ومغرية عنوانها «الميثاقية» أو «التوازن الطائفي»، وهي التي تجعل كل راع مسؤولاً عن رعيته وقبيلته السياسية والمذهبية، فاسدة كانت أم سوية.

 

على المنوال نفسه، فشلت لاحقاً كل محاولات إصلاح الإدارات وتطويرها تحت شعارات حماية الأرزاق والطبقة العاملة من ظلم «الرأسمالية المتوحشة»، وهو تعبير كان يقصد به مشروع رفيق الحريري الاقتصادي.

 

في مناسبات عدة، هَدّد بعض أركان الحكم في لبنان بالعودة إلى الحرب الأهلية إن لم تمرر لهم مشاريع فساد واضحة. وهكذا أيضاً تمت مواجهة محاولات وقف العمل بالوكالات الحصرية على أساس أنها تضر بطائفة محددة، وتمّت حماية الفساد في بعض الصناديق من خلال تعميم فوائد هذا الفساد على شرائح واسعة من الناس حتى يشكّلوا حماية شعبية لديمومته.

 

فشلت أيضاً أولى محاولات حصر استعمال السلاح بالدولة بعد رفض مشروع نشر الجيش في الجنوب، كما أنّ الرئيس الحريري اتهم بشتى أنواع النعوت لمحاولته تلك. على رغم من ذلك كله، فقد تمكّن لبنان من الدخول في عملية نمو اقتصادي سريعة رفعت الناتج القومي، وحَسّنت أوضاع الناس، وأعادت الكهرباء بنحو دائم، ورفعت مستوى الخدمات العامة.

 

بعد اعتداء «عناقيد الغضب» في نيسان 1996، وقبلها اغتيال «اسحق رابين»، تبيّن للجميع أنّ عملية السلام أصبحت في خبر كان. هنا دخل رفيق الحريري في مرحلة جديدة من المواجهة... والبقية آتية.