ترتفع حدة التشَنّج والتوتر والتعبئة على خلفية جلسة الثقة مع إصرار الناس على إقفال الطرق ومنع الجلسة من الانعقاد بهدف إفقادها النصاب وترحيلها الى وقت لاحقت وتسجيل نقطة إضافية على السلطة، ولكن نيل الحكومة الثقة ضروري لثلاثة أسباب أساسية.
 

إنّ ردّة فعل الناس مبرّرة بسبب إمعان الأكثرية الحاكمة في تحدي الإرادة الشعبية والتصرُّف وفق قاعدة business as usual، وكأن لا ثورة ولا أزمة تستدعيان تبديلاً في النهج المتّبع في تأليف الحكومات والتصدّي لأسوأ كارثة مالية عرفها لبنان منذ قيام الجمهورية الأولى، إذ كيف يمكن التعاطي مع سلطة تتنكّر للوقائع الشعبية وتتعامى عن الحقائق المالية بأقل من مواصلة الضغط ضدها، خصوصاً انّ الناس فقدوا الأمل بكل شيء ولم يبق أمامهم سوى الدفع في اتجاه التغيير كمخرج وحيد من الوضع الحالي؟

 

ولكن بعيداً من احتقان الناس المبرر، فإنّ جلسة الثقة ضرورية لثلاثة أسباب أساسية:

ـ السبب الأول، لأنّ الأزمة المالية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم لا تتحمل نزاعات سياسية تؤدي إلى تعطيل مؤسسات الدولة وشلّها، خصوصاً انّ الأكثرية لن تسلِّم بسهولة مع التوجّه لكسرها بالقوة، وبالتالي ستدخل البلاد في أزمة سياسية مفتوحة معطوفة على أزمة مالية حادة، فيما فشل الحكومة في وقف الإنهيار سيكون كفيلاً أساساً بتغيير الحكومة تلقائياً.

 

فالأولوية اليوم هي لمعالجة الأزمة المالية التي لا تتحمّل التأجيل، وعلى الأكثرية الحاكمة تحمُّل مسؤولية فشلها في معالجة هذه الأزمة، خصوصاً انّ السيناريو الآخر يعني إمّا تحوّل الحكومة إلى تصريف الأعمال، وإمّا الذهاب إلى استشارات ونزاعات جديدة، وفي الحالتين تسريع وتيرة الانهيار، فيما المطلوب عدم منح الأكثرية أي ذريعة بأن الناس هي التي عَطّلت فرص الإنقاذ، خصوصاً انّ الاتجاه الذي ستسلكه سيصل حكماً إلى الحائط المسدود، ووقتذاك يصبح التغيير حتمياً ومشروعاً وتلقائياً.

 

فقطع الطرق لمنع الجلسة من الانعقاد لا يحلّ المشكلة، وإذا نجح القطع غداً سيفشل بعد غد، وإذا لم يفشل يعني الدخول في مراوحة لا تنتهي، فيما المطلوب تحميل الأكثرية مسؤولية الحكومة التي شكّلتها وعدم قدرتها على حل الأزمة المالية وإسقاطها لشرعية المجلس النيابي الذي منح الثقة لحكومة لا تجسِّد إرادة الناس ولا طبيعة الأزمة.

 

ـ السبب الثاني، لأنّ الانتخابات المبكرة لن تتحوّل هدفاً أوّل إلّا بعد نيل الحكومة الثقة، في اعتبار انّ الهدف الأول ما زال يتمثّل حتى اللحظة بالحكومة، ولو تشكّلت افتراضاً حكومة اختصاصيين مستقلين تجسيداً لمطلب الناس و»القوات اللبنانية» لَما كانت الانتخابات المبكرة حاجة ملحّة في ظل أزمة فقر تعلو ولا يُعلى عليها، ولكن بما انّ الحكومة المطلوبة لم تتشكّل فإنّ الانتخابات المبكرة تحولت هدفاً أول من أجل إعادة تشكيل السلطة وصولاً الى حكومة اختصاصيين مستقلين.

 

إنّ ربط النزاع من الآن فصاعداً يجب ان يكون في الانتخابات، وجلسة الثقة محطة أساسية لنقل التركيز من الحكومة إلى الانتخابات.

 

ـ السبب الثالث، لأنّ الحكومة العتيدة تشكل المدخل الأساس لفشل الأكثرية النيابية التي لن يعود في إمكانها التذرّع بعرقلتها على يَد هذا الفريق أو ذاك، فإذا نجحت تنجح وحدها وإذا فشلت تفشل وحدها، وإمكانيات الفشل واسعة وكبيرة، ولذلك لا يجب منحها أسباباً تخفيفية أو ذرائع تتلطّى خلفها، بل يفترض تركها تحكم من أجل أن تظهر أمام الرأي العام أنها فاشلة وعاجزة كنتيجة ضرورية لِكفّ يدها بتشكيل الحكومة اللاحقة وفرض الانتخابات المبكرة.

 

والكلام هنا ليس لتصفية الحسابات في ظل أزمة مالية حادة وغير مسبوقة، إنما لأنّ الأكثرية أوقعَت نفسها في خطأ كبير وهو تفرّدها بالقرار في لحظة مصيرية لأسباب مَحض سلطوية كونها لا تريد أن تتخلى عن سلطتها وإمساكها بمفاصل القرار في اعتبار انها تعتقد بقدرتها على تجاوز الأزمة، فوضعت نفسها دفعة واحدة في مواجهة الناس والقوى السياسية الأخرى والمجتمعَين العربي والدولي، فيما التصدي للأزمة يتطلب بالكاد إجماع الداخل والخارج.

 

ومن هنا ضرورة ان تحكم وتفشل إفساحاً في المجال أمام التغيير المنشود، فيما منع جلسة الثقة من الانعقاد يُبقي النزاع حول انعقادها أو تشكيل أخرى من الطبيعة نفسها، لأنّ الأكثرية لم تشعر بعد بأنها محكومة بتسليم أسلحتها السياسية، بينما في حال فشلت في إدارة الأزمة ستكون مضطرة إلى التراجع خطوات إلى الوراء.

 

وفي موازاة ذلك، الحل لا يكون بتعطيل جلسة دستورية على غرار إقفال الثنائي الشيعي و»التيار الوطني الحر» مجلس النواب، وعلى النائب المنتخب ممارسة موجبات وكالته، وفي حال قرّر عدم ممارسة دوره البرلماني عليه إمّا الاستقالة، وإمّا ان يعلن تعليق دوره المجلسي في انتظار انتخابات مبكرة، خصوصاً انه لا يوجد ما يبرّر عدم المشاركة في جلسة الثقة.

 

ولا تناقض بين الناس ودورهم في الشارع، وبين القوى السياسية ودورها في البرلمان، فلكلّ دوره ويجب ان يكون هذا الدور تكاملياً لا تناقضياً، ولا يفترض ان يختصر الناس دور القوى السياسية ولا العكس، كما لا يجوز ان تضع الكتل رِجلاً في البرلمان وأخرى في الشارع إلّا في حال قررت تعليق مشاركتها نهائياً في البرلمان. وهذه المعركة يجب أن تخاض بالتكافل والتضامن بين الناس والقوى السياسية، ولا يملك أيّ من الطرفين أساساً ترف المواجهة مُنفرداً.

 

وتأسيساً على الأزمة المالية التي تستدعي التفرُّغ لمعالجتها، والانتخابات المبكرة التي يجب تحويلها هدفاً أوّل، والأكثرية النيابية التي يجب تحميلها علناً وجهاراً مسؤولية الفشل بعد تحويل المواجهة بينها وبين الناس تمهيداً لكفّ يدها. وبالتالي، تأسيساً على كل ذلك يجب إمرار جلسة الثقة لدستوريتها... ومن دون منح الثقة طبعاً.