خلاصة الصورة: حكومة دياب ستحصل على الثقة، لا «لسواد عيونها»، بل لأنّ المطلوب إعطاءها فرصة لتقوم بما يريده المجتمع الدولي. لكنها في الواقع مشلولة. والقوى التي جاءت بها تمنعها من أي تحرُّك مستقلّ. ولذلك، لا تُتْعِب الحكومة نفسها في التخطيط واتخاذ القرارات: تستعير الموازنة جاهزة، وكذلك الشق السياسي من البيان الوزاري. وأما في شقّ الإصلاح والمال والاقتصاد، «فليحدِّد الأقوياء ما يريدون وسنلتزم التنفيذ»!
 

بعد حصول الحكومة على الثقة، سيكون عليها أن تبدأ العمل، ومعها ستبدأ المحاسبة. وفي تقدير المتابعين أنّ دياب مع وزرائه مقتنعون بأن لا مجال للانطلاق في الحلّ إلّا بالعثور على تمويل فوري يقارب الـ10 مليارات دولار، للتمكّن أولاً من الصعود من قعر الهوّة. وبعد ذلك، تكون هناك حاجة إلى ما بين 10 مليارات و15 أخرى، لإمرار الخطط الإنقاذية المطلوبة.

 

حتى الآن، كل الأبواب التي طَرقها لبنان للحصول حتى على بضعة ملايين من الدولارات من الخارج باءت بالفشل، فكيف يمكن طلب المليارات؟ ولبنان سيكون مضطراً إلى النزف بما يفوق المليارين لتسديد سندات «اليوروبوند» المستحقة بين آذار وحزيران لجهات خارجية، خصوصاً أن عدداً من المصارف يعمد إلى بيع سنداته للخارج، خوفاً من قيام لبنان بتسديد الحصة للأجانب فقط، وتأجيل الدفع للجهات المحلية.

 

ومن الواضح أنّ الباب الوحيد للحصول على الدعم المالي «السريع» حالياً يكمن فقط في الاستجابة لشروط الإصلاح التي وضعها مؤتمر «سيدر» في 2018، والتي تنطوي على التزام الشفافية والنأي بالنفس.

 

وهذا الشقّ من الشروط يطلبه أيضاً الأميركيون وحلفاؤهم العرب. وهو ما أوحى به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عندما أكد أنّ عمق الأزمة ليس اقتصادياً ومالياً، بالمعنى «التقني»، بل بالخلفيات السياسية «المُحضَّرة» محلياً وإقليمياً ودولياً.

 

إذاً، لن يكون أحد مخدوعاً بما ينتظر لبنان في الأشهر القليلة الأولى من عمل حكومة دياب. وهناك مطّلعون سمعوا أنّ الأيام الآتية ستكون سوداء، لأنّ الأفق مسدود تماماً. وسيكون التركيز على هدف أساسي هو: كيف سنتمكن من إبعاد شبح الجوع؟

 

وعند هذه الكلمة، «الجوع»، يتوقف المتابعون، ويعتقدون أنّ من الواجب أخذها بكثير من الجدّية، وبالمعنى الحرفي لا المجازي. فثمة مَن يتوقع أن تزداد حدّة مستويات الفقر في الأيام والأسابيع المقبلة، مع توقّف كثير من المؤسسات عن العمل أو تسريح العاملين فيها أو تقلّص مداخيلهم أو توقفها نهائياً، بالتوازي مع تشديد المصارف من إجراءات التعامل مع الزبائن إلى حدود متطرفة.

 

وهذا الأمر سيؤدي، وفق المتابعين، إلى انفجار اجتماعي غير مسبوق ولا يمكن تقدير عواقبه، بما في ذلك على المستوى الأمني. وربما بدأت تظهر مؤشرات ذلك في ارتفاع حدّة المواجهات في الشارع والجنوح إلى العنف من جهة المتظاهرين ومن جهة القوى الأمنية أيضاً. 

 

بعد الثقة، وفي ظل الإفلاس المالي - النقدي - الاقتصادي والانفجار الاجتماعي - الأمني، ستبدو حكومة الوكلاء وكأنها مَركبة فضائية ابتعدت عن مركز الجاذبية وضاعت في الفضاء… وعلى الأرجح ستتفكّك أو ستحترق، إلا إذا سمح لها «أولياء أمرها» من قوى محلية أن تتحرك في اتجاه ما وتتجاوز المطبّ.

 

طبعاً، هذه القوى المحلية ستنتظر من جهتها ما ستتبلّغه من المحاور الخارجية التي تتحالف معها. وستكون المشكلة أنّ أولوية كل محور هي الاحتفاظ بالقوة والنفوذ في وجه المحور المقابل، وليس بالضرورة أن يتناسَب ذلك واستقرار لبنان المالي والاقتصادي والاجتماعي، وحتى السياسي والأمني.

 

ولكن، في أي حال، إذا أرادت الحكومة إخراج البلد من المأزق، فسيكون أمامها خياران فقط لتحصيل المليارات الـ10 الأولى، الحيوية جداً:

 

1- أن تباشر الحكومة فوراً بالتزام نهج إصلاحي جريء، يبدأ بكشفٍ فوري عن وقائع وأرقام تتعلق بالأموال المسحوبة إلى الخارج منذ ما قبل انتفاضة 17 تشرين الأول بأشهر، ودعوة أصحابها إلى إعادتها إلى لبنان. ويتردّد أنها تتجاوز الـ6 مليارات دولار. ثم البدء بآليات استعادة الأموال المنهوبة التي يقدّرها البعض بعشرات المليارات أو حتى بالمئات.

 

والخبراء يتحدثون عن آليات مجدية لاستعادة قسم من هذه الأموال على الأقل، إذا وُجدت الإرادة. وتكون في سياق عملية إصلاح جذرية للإدارة تستغرق أشهراً لا سنوات. وعليها يتم البناء للتوجّه إلى المجتمع الدولي والمطالبة بتحريك مساعدات «سيدر» والخليجيين العرب والمؤسسات الدولية المانحة.

 

لكن هذا الخيار الإصلاحي تتهرّب منه القوى السياسية دائماً لأنه يضرب مصالحها ويكشفها. حتى عندما هدّد المجتمع الدولي بحجب مساعدات «سيدر»، بقيت تتهرّب، وتستمر في ذلك بعد الانتفاضة، لأنّ الإصلاح بالنسبة إليها هو مسألة حياة أو موت.

 

2- أن تعلن الحكومة عجزها عن سلوك أي خيار إصلاحي فتقع الكارثة. وهذا محتمل حصوله في غضون أيام أو أسابيع قليلة. ولن يتمكن أحد من تحمّل العواقب. وسيكون لبنان في المواجهة: إمّا الجوع والفوضى، وإمّا الرضوخ لمعونة المجتمع الدولي بشروطه.

 

يعني ذلك أن يرفع لبنان يديه مستسلماً ويتوجّه إلى صندوق النقد الدولي، على غرار ما فعلت دول أخرى مرّت بالتجربة. ويقوم الصندوق بإعداد الوصفات اللازمة للإنقاذ، وفق رؤيته. وسيكون للبنانيين أن يبدوا آراءهم خلال المفاوضات معه، لكن هناك حدّاً من المطالب لا تراجع عنه.

 

سيكون مطلوباً التزام إجراءات إصلاحية حازمة في أماكن اعتادت القوى السياسية استباحتها، وستكون الأكلاف باهظة على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وسيتم تنفيذ برنامج ضمن مهلة زمنيّة لا تقلّ عن 5 سنوات لتحقيق الإنقاذ، قوامه الخصخصة. واللجوء إلى الصندوق يبدو الأقرب إلى الواقعية في ظل انسداد أي أفق آخر… عندما يصل البلد إلى الجوع الحقيقي.

 

ولكن، هل تعرف الطبقة الحاكمة أنّ الصندوق سيشرف بدقة على تنفيذ خطته، بحيث يصعب خرقها؟ وهل ستلتزم وصفته الإصلاحية التي تمنع التهرُّب والتهريب وتفرض الشفافية في العقود والمناقصات؟

 

وإذا كانت ستلتزم، فلماذا لا تبدأ الإصلاح ذاتياً، وبهدوء، فتُفتَح أبواب «سيدر» والخليجيين وسواهم، وبأقل مقدار من التدخّل الأجنبي؟