بعد الأممي يان كوبيتش والأميركي ديفيد شينكر وسواهما من مسؤولين وموفدين أجانب وعرب، هل تحتاج حكومة الرئيس حسّان دياب إلى مزيد من الإشارات والرسائل لتعرف أي طريق عليها أن تسلك لإنقاذ ما تبقّى من الوضع اللبناني؟
 

حاول دياب أن يُقنع سفراء الاتحاد الأوروبي أمس، بأنّ حكومته هي حكومة الإصلاح المنتظرة، وبأنّها هي الترجمة السياسية لانتفاضة 17 تشرين الأول. وهذه المحاولة ليست جديدة. والأوروبيون، كما الأميركيون والعرب، وافقوا منذ اللحظة الأولى على منح الحكومة فرصةً لإثبات صدقيتها في تغيير النهج من الفساد إلى الإصلاح.

 

طبعاً، هناك تحفُّظات يبديها الأوروبيون وسواهم على ما يجري. فقد وعدَ دياب بتسليم الوزارات إلى تكنوقراط مستقلين، لكنها بقيت في أيدي القوى السياسية نفسها، بالمواربة. والموازنة التي أنجزتها الحكومة السابقة هي التي اعتمدتها «حكومة الإصلاح» بلا تعديل. ولا تغيير متوقعاً في الطواقم التي جاءت بها المحسوبيات السياسية نفسها إلى الإدارة. فمن أين سيأتي الإصلاح إذاً؟

 

وفوق ذلك، البيان الوزاري جاء استعادةً لنماذج البيانات السابقة في الجانب السياسي- الأمني منه. أما في الجانب المالي والاقتصادي فقد أطلق رشقاتٍ من عناوين الإصلاح والإنقاذ المحدّدة بمهل زمنية عمومية، ولكن غير المترابطة ولا المبرَّرة بآليات أو المضبوطة ببرامج. وهذا ما يثير انطباعاً بأنّ الغاية من إدراجها في البيان الوزاري هو رفع العتب والخداع بوعود الإصلاح.

 

على رغم ذلك، لم يتسرَّع أحد في اتخاذ موقف سلبي من الحكومة. وتلتزم القوى الدولية إعطاءها مهلة كافية لإثبات الصدقية. ولكن، هل يدرك أركان حكومة دياب وداعموها، ما سيكون الوضع عليه بعد انتهاء المهلتين الممنوحتين لها: المهلة القريبة، أي حصولها على ثقة المجلس النيابي، والمهلة البعيدة أي الـ100 يوم التي حدَّدتها هي لنفسها؟

 

في الأوساط الديبلوماسية كلامٌ مفادُه أنّ القوى الدولية امتنعت حتى اليوم عن فرض عقوبات على لبنان، لأنّها شديدة الحرص على استقراره. وهي تكتفي بإرسال التحذيرات إليه. لكنها في الوقت نفسه لن تتهاون في التزامه الإصلاح ووقف الانزلاق في المواجهة الإقليمية.

 

وهذا هو فحوى الكلام الذي قاله كوبيتش عشية إنجاز الحكومة لبيانها الوزاري، والذي كرَّره السفراء الأوروبيون، وقبلهم جميعاً مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر، الذي ذهب إلى التحذير المباشر من نقطة الضعف اللبنانية حالياً: «نحن نعرف تماماً حجم المؤونات من العملات الأجنبية في مصرف لبنان. إنه أدنى بكثير مما هو مُعلَن».

 

إذاً، بعد نيل حكومة دياب ثقة المجلس، ستكون الرسائل الدولية أقوى وأكثر حزماً، ومنها رسالة شينكر المُنتظر في بيروت قريباً. وأما السعوديون فإشاراتهم واضحة ديبلوماسياً.

 

وربما تكتشف قوى السلطة اليوم خطأها في عدم التجاوب مع الانتفاضة منذ الأيام الأولى، بالذهاب سريعاً إلى الإصلاح الحقيقي. فآنذاك، كان ممكناً تجاوز الأزمة، بأدوات لبنانية فقط، وبعيداً من تدخلات الدول والجهات والمؤسسات المانحة. أو على الأقل، بأقل مقدار من الضغوط على لبنان.

 

وفي اعتقاد البعض، أنّ أي تأخير إضافي في الاستجابة لمتطلبات الإصلاح الحقيقي سيقود القوى السياسية إلى مزيد من التورُّط مع القوى الخارجية، لأنّ الحاجة إلى مساعداتها ستكون أكثر إلحاحاً.

 

ويقول أحد الخبراء، إنّ الطبقة السياسية في لبنان أدمنت على المساعدات كما أي مدمن على المخدرات، بحيث إنّها أصبحت رهينة للمشيئات الخارجية، ومستعدة لالتزام تعليماتها. وكان يمكن أن يكون لبنان أكثر استقلالاً في قراره لولا أنّها أوصلته إلى الانهيار.

 

وثمة مَن يعتقد أنّ فرنسا لا بدّ أن تقف إلى جانب خيار السلطة في لبنان، وأن تساعدها على إقناع الأميركيين والسعوديين بـ«تفهُّم الوضع» وتجنّب توسيع العقوبات التي تستهدف اليوم «حزب الله» لتشمل لبنان كله.

 

لكن هذا الرهان، في تقدير المطلعين، لم يعد واقعياً. والدليل هو أنّ فرنسا نفسها تتولّى تجميد المساعدات المقرّرة في «سيدر» منذ 2018، وأنّها لم تتجاوب مع الحريري في محاولاته المستميتة لتحريكها.

 

فاللغز، وفق هؤلاء، يكمن في أنّ أي قوة دولية لن تجرؤ على خرق الحصار الذي تفرضه الإدارة الأميركية على «حزب الله»، في سياق مواجهتها الكبرى مع إيران. وبالتأكيد، فإنّ الأوروبيين يلتزمون هذا الموقف، ولو كان هناك تباين في المصالح مع واشنطن. أما القوى العربية الحليفة للولايات المتحدة فهي الأكثر حماسة في المعركة ضد إيران.

 

ومنذ بدء الانتفاضة، في 17 تشرين الأول، تداخلت عناصر محلية وإقليمية ودولية جعلت الأزمة الحالية في لبنان أكثر تعقيداً، ووضعت حكومة دياب أمام تحدّيات خطرة. وهي:

 

1- تحدّي الجرأة على اتخاذ خطوات سليمة لوقف الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي.

2- استتباعاً، تحدّي القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، أي وقف الهدر واسترداد الأموال المنهوبة، مع ما يستدعيه ذلك من مواجهة مع طاقم الفساد.

3- تحدّي التأسيس للانتقال إلى طاقم سياسي جديد ونظيف.

4- تحدّي فكّ ارتباط لبنان بالمحاور الإقليمية، ولا سيما منها المحور الإيراني.

5- تحدّي التعاطي في ملف الغاز والنفط في ظل تحوّل البحر المتوسط ساحة نزاع بين المصالح الإقليمية والدولية حول الطاقة والنفوذ: الأميركيون والروس والإسرائيليون والأتراك والأوروبيون…

6- تحدّي المواجهة مع متطلبات صفقة القرن، سواء في الشقّ المتعلق باللاجئين أو بمقاربة ملفات الحدود وسواها…

 

والتحدّيات الأخيرة، أي الإقليمية، ازدادت حدّة في الأشهر الأخيرة. ولعلها أكثر ثقلاً على حكومة دياب من الملف المالي الداخلي، بل هي تترابط فيه لأنّ الجهات الدولية والإقليمية التي ستتوجّه إليها لطلب المساعدات المالية هي نفسها عناصر النزاع الدولي - الإقليمي، ولا سيما منها الولايات المتحدة وإيران.

 

وليس من المبالغة القول، إنّ كل الصخب اللبناني اليوم يدور حول محورٍ أساسي هو النزاع الأميركي - الإيراني. فالحسم في هذا النزاع يعني الحسم في لبنان، والعكس صحيح، بمعزل عمّا إذا كان الحسم سيصبّ في مصلحة لبنان أو لا. والبقية تفاصيل و«دمى متحركة» على الشاشة.

 

واستتباعاً، حكومة دياب محكومة بالغوص في بحرٍ من التعقيدات الهائلة داخلياً وإقليمياً ودولياً. وستكون البراعة في الخروج منها بسلام. وهي محكومة أيضاً بأن تواجه هذه التحدّيات، ولا يمكنها التلكؤ كما فعلت سابقاتها. ولو كان التأجيل ممكناً لما «زاحت» طبقة السياسيين «نسبياً» من الطريق.

 

حتى اليوم، يوحي دياب أنّه مرتاح، وبأنّه قادر على المواجهة. لكن كثيرين يخشون أنّه سيحارب طواحين الهواء، وبعبارة أخرى، سيحارب طواحين واشنطن - طهران التي تطحن كل الشرق الأوسط وستأخذ لبنان بدربها إذا لم يحيّد نفسه!