صَدق وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو في ما أعلنه في ختام زيارته لليونان في 5 تشرين الاول الماضي غداة الاتفاق على تركيز 3 قواعد عسكرية اميركية جديدة على الاراضي اليونانية. يومها قال: «منطقة الشرق الاوسط هي منطقة ديناميكية يجري فيها الكثير الكثير من التغيير، ونحن نعمل لضمان أن تكون اليونان ركيزة الاستقرار في المنطقة».
 

يومها ساد اعتقاد أنّ كلام الرئيس السابق لـ CIA ووزير الخارجية الصقر والأقرب الى الرئيس الاميركي دونالد ترامب، يتعلق حصراً بالنزاع الدائر حول حقول الغاز البحرية التي اكتُشفت شرق البحر الابيض المتوسط.

 

لكنّ حجم التطورات الهائلة التي حصلت بعد «نبوءة» بومبيو أخذت الشرق الاوسط الى خريطة جيوسياسية جديدة آخِذة في التبلور. وهو ما يعني انّ لإدارة ترامب مشروعاً للشرق الاوسط وهو ما يجري تنفيذه.

 

صحيح انّ البعض يراهن على سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلّا أنّ كافة المؤشرات حتى الآن تؤكد عودته ولو انه ما يزال هنالك وقت كاف لحصول مفاجآت.

 

ففي واشنطن يتّجه مجلس الشيوخ الى تبرئة ترامب من التهم التي وجّهها إليه خصومه في الحزب الديموقراطي. وهو لم يكتف بذلك، بل ألقى خطاباً قوياً في مجلس النواب وفي الغرفة نفسها التي شهدت مساءلته والتوصية بعزله من منصبه، ركّز فيه على إنجازاته الاقتصادية.

 

في المقابل، أفضَت نتائج الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي في ولاية «أيوا» الى تصدر المرشح «بيت بو تجيج» ما شكّل مفاجأة، وأعطى الانطباع انّ اختيار ابن الثامنة والثلاثين يعني انّ القاعدة الديموقراطية تريد مرشحاً يحظى بالحيوية، وهو ما يفتقده سائر المرشحين بسبب تقدمهم في السن.

 

لا بل انّ البعض يتحدث عن انّ الناخبين الديموقراطيين الذين آثروا عدم الاقتراع في الدورة السابقة لعدم اقتناعهم بمرشّحهم بَدوا اكثر ميلاً الى انتخاب ترامب هذه المرة.

 

وفي أحدث استطلاع أجراه معهد «غالوب» الاميركي قبل ساعات من خطاب الرئيس الاميركي، نال ترامب 49% من التأييد، وهو أعلى مستوى يسجّله منذ وصوله الى السلطة مطلع 2017. وكل هذا يعني أنّ الشرق الاوسط مستمر في التغيير الذي تحدّث عنه بومبيو، ليصبح السؤال كيف سيكون سلوك ترامب في ولايته الثانية.

 

صحيح انّ التوقيت الذي تمّ فيه إطلاق «صفقة القرن» كان لأهداف انتخابية اميركية واسرائيلية، الّا انه لا يمكن إنكار انّ ثمة إطاراً تحاول واشنطن وَضعه. فسقوط «خيار الدولتين» يعني فتح الطريق امام حل على حساب الأردن.

 

وفي استطلاع أجراه «المعهد الاسرائيلي للديموقراطية» ونَشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» اعتبر 50% من الاسرائيليين انّ عرض «صفقة القرن» في هذا التوقيت هو تدخّل أميركي متعَمّد في الانتخابات الاسرائيلية، بينما عارض 36% ذلك. وهو ما يعني انّ المردود الانتخابي لنتنياهو من إعلان «صفقة القرن» لم يكن كما أمِل، وهو لذلك في حاجة الى دعم أكبر ومن اماكن أخرى. وأهم جوانب الدعم يكون من روسيا التي لديها جالية تُقارب المليون ونصف مليون شخص في اسرائيل. صحيح انّ العفو الرئاسي الروسي عن الاسرائيلية نعمة إيساخار، شَكّل هدية انتخابية لنتنياهو، لكن هنالك ما هو أهم، والذي على ما يبدو كان لترامب دور فيه، وعلى أساس الرؤيا الشاملة للشرق الاوسط. ففي الإنتخابات الاسرائيلية الاخيرة، دفع نتنياهو ثمن العلاقة المتوترة مع موسكو بسبب تَودّده لأوكرانيا. يومها، وخلال الزيارة التي سبقت افتتاح صناديق الاقتراع، اضطرّ نتنياهو الى الانتظار 3 ساعات في سوتشي قبل ان يلتقيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أدلى بتصريح إعتُبر تشجيعاً للجالية الروسية على الاقتراع ضد نتنياهو.

 

وفي ظل العلاقة المتوترة عَمدت السلطات الاسرائيلية الى التضييق على المسافرين الروس الى اسرائيل من خلال اجراءات مطار بن غوربون، ومُنِعَ زهاء 6 آلاف روسي من دخول اسرائيل. وفي المقابل أوقفت السلطات الروسية 25 مسافراً إسرائيلياً وتم التحقيق معهم.

 

لكنّ الصورة اليوم تبدّلت، ووافق نتنياهو على إعادة ملكية مجمع الكسندر الكنسي الروسي في القدس الى الملكية الروسية، وأُعفيَ من الضرائب.

 

وقيل انّ ما حصل هو أبعد من مصالحة، انه تفاهم له بُعد إقليمي ساهمت ادارة ترامب في ترتيبه.

 

ففي الجنوب السوري تراجع للنشاط الايراني بضمان ورقابة روسية. وفي الشمال السوري معارك عنيفة بهدف تحجيم النفوذ التركي. فالهجوم الذي يشنّه الجيش السوري مدعوماً بإسناد جوي روسي كبير، يتّخذ مدينة إدلب هدفاً له والتي لم تعد تبعد سوى 8 كلم عن طلائع القوات السورية، ما دفع وزير الخارجية التركية الى التهديد بأنّ اتفاقيتي سوتشي واستانة تنزفان.

 

بالتأكيد لن تذهب موسكو في اتجاه ضرب الشراكة مع أنقرة في هذه المرحلة، لكنها تريد ترتيب خرائط نفوذ جديدة من دون تهديد عمق المنطقة الامنية التركية.

 

ولكنّ العمليات العسكرية الجارية أدّت الى استعادة تركيا علاقتها مع واشنطن، وأفيد عن اجتماعات عسكرية تركية ـ أميركية حصلت في قاعدة إنجرليك، وفتحت الباب امام تعزيزات عسكرية تركية كبيرة الى الداخل السوري.

 

لكنّ أهداف روسيا، والتي استفادت منها واشنطن، ليست محصورة فقط بترتيب ميزان قوى جديد في شمال سوريا، بل أيضاً بالضغط على تركيا في مقابل نشاطها العسكري في ليبيا.

 

ففي أيار 2013، أي قبل عامين من تدخّلها في سوريا، أعلنت موسكو عن إنشاء قوة عمل روسية بحرية دائمة في البحر المتوسط. فروسيا تطمح، من خلال تدخلها في ليبيا، الى السيطرة على موانئها البحرية ومساندة وجودها في ميناء طرطوس والدعم الذي سيحصل من ميناء طرابلس اللبناني. وهذا سيُكسبها تأثيراً واضحاً على جنوب أوروبا.

 

كل هذه الورشة أُبعدت عنها ايران، خصوصاً بعد اغتيال قاسم سليماني. وبخلاف التوقعات التي سادت، فإنّ ايران بَدت أقرب الى التهدئة. ووفق المصادر الاميركية فإنّ الجيش الايراني لم يعد في حال الاستنفار القصوى، بل في وضع الاستعداد العادي. في وقت قال وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف: «إنّ المفاوضات ليست شيئاً سيّئاً، وبعد كل حرب يجب ان تكون مفاوضات».

 

هذا الكلام يوحي بالكثير في هذه الظروف، خصوصاً اذا ما أضفنا اليه الكلام الروسي عن أنّ ايران تريد التهدئة في المنطقة.

 

ولذلك، كانت حكومة حسان دياب في لبنان، والقبول بحكومة تكنوقراط لا حكومة تكنو-سياسية.

 

لكنّ العارفين ينقلون عن أوساط ديبلوماسية اميركية، أنّ مسار ترتيب المنطقة مجدداً امامه عدد من المراحل، ما يزال من المُبكر التكهّن بها. ووفق هذه الاوساط فإنّ جميع الاطراف يدركون انّ ثمة «تقليماً للأظافر» سيحصل، وهو لم يبدأ بعد. ومعه لا بد من طرح السؤال: هل لبنان قادر على الصمود الى ذلك الحين؟