لقد غلبت الحكمة على المتظاهرين بأن رفضوا حمل السلاح. فكسبوا الضفة المرتفعة للأخلاق، وحولوا زخم الاحتجاج إلى حركة ضمير لتتعرى حيالها سلطة ميليشيات بلا ضمير.
 

يموّل نظام الفساد في العراق نفسه وداعميه من عائدات نفط العراق، ويحصل العراقيون على الفقر والبطالة. تلك هي القسمة الضيزى التي تفرضها سلطة الميليشيات. والسؤال الذي سيظل يواجه الملايين من الضحايا ممن يدفعون الثمن هو: لماذا تركتم النفط يجري؟

 

تقول الإحصاءات إن النهب منذ غزو العراق التهم تريليوني دولار من عائدات العراق النفطية. ويُحرمُ العراقيون من الماء النظيف والكهرباء والخدمات الصحية ويتراجع التعليم وتنهار البنية التحتية. وما من داع لكي تسأل أين ذهب كل ذلك المال. لأنك تعرف الجواب فلماذا تركتَ النفط يجري؟

 

وأنت إذ تحتجّ على الجرائم التي تتعرض لها ويتعرض لها أبناؤك كل يوم، فإنك تعرف أن المجرمين يمولون جرائمهم من أموال أنت وأبناؤك أحق بها. كما تعرف أن تلك الأموال لم تأت من زراعة تردت ولا من صناعة تحطمت، ولا من تجارة شريفة، وإنما من النفط دون سواه، وهو يسري كالدم في عروق الفساد. فلماذا تركت النفط يجري في تلك العروق؟

 

وتقول إحصائيات البنك الدولي إن “نسبة الفقر في العراق وصلت إلى 41.2 بالمئة في عموم العراق، وإن 22 بالمئة يعيشون تحت خط الفقر”. وأن “48 بالمئة من السكان في العراق أعمارهم أقل من 18 عاما بينهم 23 بالمئة فقراء، وإن 50 بالمئة من الأطفال الفقراء يعيشون في المحافظات الجنوبية”. كل هذا والنفط لا يزال يجري في عروق الفساد.

 

وأثمر غزو العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية ومشاريع الفصل الطائفي عن تهجير أربعة ملايين إنسان. وعندما اندلعت الحرب ضد تنظيم داعش، فقد تم انتهازها للتنكيل بالمزيد، حتى قالت منظمة اليونيسيف إن الأطفال يشكلون نحو النصف من بين 2.6 مليون شخص نزحوا في العراق في غضون السنوات الثلاث الأخيرة. وهذه المأساة المتواصلة إنما موّلها النفط. وتقول “لجنة الاقتصاد والاستثمار” في البرلمان، إن “نسبة البطالة والعاطلين عن العمل من الخريجين تجاوزت 42 بالمئة في عموم محافظات البلاد”، وإن “أعداد الخريجين العاطلين عن العمل قد تتجاوز الخمسة ملايين شخص”. فإذا لم يكن بوسع النفط أن يوفر أساسا للاستثمار، أفهل يجوز لعائداته أن تواصل “الاستثمار” في الميليشيات؟

 

وتقول الحكومة العراقية إن عدد الموظفين في مختلف دوائرها بلغ خمسة ملايين موظف وإنهم يستهلكون نصف ميزانية البلاد. ولو كان ذلك حقيقيا، فإن الخمسة ملايين كان بوسعهم أن يعيلوا 20 مليونا من أصل 35 مليونا، بحسب معدل الأسرة، وهذا ما لا يحصل، لأنك تعرف أن عددا ضخما من هؤلاء الموظفين هم مجرد أرقام وهمية، تتم تغذيتها من عائدات النفط.

 

لقد غلبت الحكمة على المتظاهرين بأن رفضوا حمل السلاح. فكسبوا الضفة المرتفعة للأخلاق وحولوا زخم الاحتجاج إلى حركة ضمير لتتعرى حيالها سلطة ميليشيات بلا ضمير. حتى أنهم عاملوا بعض انتهازيي الجماعات الطائفية بالحكمة نفسها، قائلين إنهم قد يوفرون دما، أو قد يوفرون بعض شقاء. وخاضوا تجارب احتجاج غير مسبوقة وابتكروا وسائل جديدة للاستمرار، وكأنهم عقل جامع يزن المبادرات ويلوح بإمكانيات لا تقدر حكومة الميليشيات على مواجهتها. وتوزعت الاحتجاجات بين المدن والبلدات، كما تفرقت في الأحياء والشوارع، لتفتت قدرة رعاع الأمن و“قوات الشغب” على القمع.

 

ولكن ذلك كله، لا يكفي لتقديم الجواب: لماذا تركتم النفط يجري، وهو يموّل الموت بينكم والخراب؟